بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال تعالى: ﴿ وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ * وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ * فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾
الشرف العظيم والقوة الكبرى والركن الشديد أن يؤمن الإنسان باللَّه وحده ، ويعتمد عليه وحده ، ويتوكل عليه وحده. فالتوحيد أعظم شرف يتشرف به ابن آدم ، وأقوى ركن يعتمد عليه ، وأفضل وسيلة يتوسل بها . أما الشرك ؛ فهو ضعف وذل وهوان .
وعلينا ـ ونحن نتلو آيات القرآن المجيد ـ أن نتبصّر ذلك النور الفياض منها ؛ ابتداءً من باء ﴿ بِسْمِ اللَّهِ ... ﴾ ، وانتهاءً بسين ﴿ ... وَالنَّاسِ ﴾ .
ولعلّ من أعظم أنوار القرآن ؛ نور الهداية إلى اللَّه سبحانه وتعالى . وقد ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام : ( لقد تجلى اللَّه لخلقه في كلامه ، ولكنهم لا يبصرون )
فإذا كنّا لا نبصر ولا نسمع ولا نعقل ، فلماذا وهبنا اللَّه تبارك وتعالى السمع والبصر والفؤاد ؟
إنّ القرآن الكريم كتاب التوحيد ، ومفتاح فهم هذا الكتاب هو معرفة اللَّه عزّ وجل ، ومن ضلّ عن ربّه فقد ضلّ ضلالاً بعيداً ، ومن لم يجعل اللَّه له نوراً فما له من نور . والشرك هو الضلالة الكبرى والتيه الأكبر . .
ومن أجل توضيح هذه الفكرة التي استوحيها من آيات مباركات من سورة العنكبوت ، لابد أنّ أضرب لكم مثلاً فيذلك ، لأن الأمثال تقرب الحقائق ، فأقول ؛ من يقصد منطقة معينة فيركب صهوة حصان هائج ، لن يصل إلى مقصوده ،ولن يفلح راكب سيارة ذات فرامل ضعيفة في الوصول بسلام ، ولن ينجو الغريق إذا ما توسّل بقشّة . .
وكذلك الإنسان إذا ما اعتمد على غير اللَّه ، فإنه سيتأكد في نهاية المطاف أنّ ( هذا الغير ) ليس لن ينفعه فقط ،وإنّما سيضره أيضاً . فهذا الغير سيتحول إلى وسيلة هدم لحياته .
فلقد اعتمد فرعون على قدرته الاقتصادية والزراعية وثروته المائية ، حتى قال : ﴿ ... وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ... ﴾
إشارة إلى تسلطه المطلق على نهر النيل ، وأنّه يسيره كيف شاء . لكن هذا النهر هو الذي غرق فيه فرعون وأصبح بذلك آية للعالمين .
وتلك عادٌ الأولى التي كانت قبيلة قوية ، ذات شوكة و بطش وجبروت ، كانت تقطن في الطرف الشمالي للجزيرة العربية ، متشبّثة ببيوتها وصخورها ، إذ نحتت من الجبال بيوتاً ، فأرست قواعد حضارتها ، إلاّ أنها لفرط اعتمادها على صخورها وحصونها دمّرها اللَّه بذات الصخور .
إذن ؛ قانون وسنّة إلهية ، مفادها ضرورة فتح الإنسان لعينيه وأذنه وعقله ليرى حقيقة التأريخ ، وأنّ من يحجم عن ذلك ويريد ابتداع سنّة كونية من عند نفسه ، أو يهدف محاربة السنن الإلهية في الكون ، فإن عقاب اللَّه سيقف له بالمرصاد ،حيث سيدمّر ويمحق بذات الشيء الذي اعتمد عليه من دون اللَّه .
أتعلمون أن أبا مسلم الخراساني هو الذي أقام حكومة أبي العباس السفاح والمنصور العباسي ، ولكنّهما هما اللذان قتلاه . والبرامكة على عظمة صيتهم رفعوا هارون العباسي إلى سلطان الهيبة والاقتدار ، فما كان منه إلاّ أن بدأ بهم فقتلهم شرَّ قتلة . ذلك لأنهم وأمثالهم ممن يعينون الطغاة ، يتغافلون عن الحقيقة الإلهية القائلة : بأنّ من اعتمد على غير اللَّه ذلّ .
ولعل في صعود وأفول نجم الحضارات البشرية عبر التأريخ أمثلة ومصاديق لذلك .
والمثل الجديد الذي أرغب في إيضاحه لكم هو مَثل الثورة المعلوماتية الجديدة التي تعتمدها الحضارة البشرية الراهنة ، وكيف أن هذه الحضارة التي لا تتخذ من الحق والعدل والحرية وكرامة الإنسان مرتكزاً لها ، سيكون مصيرها نفس مصير ما سبقها من حضارات ، وكيف أنّها تعيد عجلة التأريخ على نفسها وكأنّها غير معنيّة بما سبق للبشرية أن ذاقته منعذاب إلهي شديد . . .
أتحدّث معكم ونحن في مطلع القرن الواحد والعشرين ، حيث مرت علينا سنة الألفين ، وعاش فيها العالم أزمة الكومبيوترات الكبرى ، المبني نظامها أساساً على رقمين هما واحد وصفر أو صفر وصفر ؛ أي صفران . ولما كانت سنة ألفين تحوي ثلاث أصفار ، فإنّ أجهزة الكومبيوتر الحاوية لمليارات المليارات من المعلومات ، والتي أضحت القائد والموجّه لمعظم الأجهزة التكنولوجية في العالم عموماً والغرب على الخصوص ؛ وما فيها من صواريخ وطائرات ومطارات وقطارات وبنوك وبورصات وأقمار صناعية وغير ذلك ، كلّها عانت الرعب أن تصاب بالعطل ، لو لم يعثر على حلّ مجدٍ لتلك الأزمة الكبرى .
إن هذا الغلط البسيط كان له أن يتسبّب بحدوث كارثة عظمى ، حسب ما أكد رئيس لجنة كارثة الألفين في مجلس الشيوخ الأميركي .
إذ أكد أنه بعد سنة ألفين ستتوقف القطارات ، لأنّها تعتمد على الكومبيوتر ، وكان متوقعاً في أول يوم من هذه السنة أن تتعطل الأقمار الصناعية وأنظمة الاتصال ومحطات الوقود والطائرات وكل الكومبيوترات مركّبة بطريقة غير صحيحة .
ولقد انكبّ العلماء والمتخصّصون على اكتشاف حلٍّ لهذه المعضلة التأريخية .
ولكنّ العالم المهدّد بسبب بسيط ، وهو عدم قدرة الكومبيوتر على التجانس مع قراءة رقم ألفين وما بعده ، هذا العالم من الممكن جداً أن يتعرض لمشكلة وكارثة أكبر وأخطر إذا ما توقفت كل الأجهزة المعلوماتية وأجهزة الاتصال ، لأنّه يعتمد على نظام شركي ، قوامه الأوّل الأمواج التي تثير الأجهزة وتحركها وتمنحها مزيداً من الدقة في الفعل وردّ الفعل . فهذه الصواريخ كلها تتوجّه وتعمل عبر الأمواج ، وإذا ما أمكن تعطيل حركة الأمواج ، فإنها ـ الصواريخ ـ ستنتهي إلى احتمالين ؛ إمّا التصويب غير الدقيق ، وهذا يعني نهاية العالم . واحتمال آخر هو التوقّف عن العمل أساساً .
إنّ عجز الكومبيوتر ليس بالشيء الغريب أبداً ، فإن لدينا من القصص والتجارب العديدة ما يؤيد ويسهل هضم هذه الحقيقة الملموسة . فهذا العالم الفيزيائي الشهير ( ألبرت أنشتاين ) الذي يقال إن حجم دماغه كان أكبر من الأحجام المعتادة بنسبة ثلاثين بالمائة من الأدمغة الطبيعية للناس . . وكان ذا قدرة عجيبة على التحليل واكتشاف القوانين والنظريات ، وآخرها نظرية النسبية المعروفة . هذا الرجل ـ على عظمة قدرته الرياضية ـ كثيراً ما كان يفشل في كتابة أو قراءة الرقم ( 2 ) ، مما كان يتسبب في وقوعه في المشاكل والإزعاجات اليومية . ولما كانت قدرة العقل البشري المتوسط يفوق بمليارات المرات قدرة أدق وأحدث كومبيوتر مخترع ، فما بالك بالفارق الذي لا يوصف والذي يميّز عقل أنشتاين عن جهاز الكومبيوتر المشار إليه ؟
وما أريد تأكيده هنا ، هو القول بأنّ احتمال أو توقع حصول خطأ تكنولوجي في الاختراع أو طريقة الاختراع من قبل المخترعين أمر في غاية الصحّة ، وأنّ القول بحصول كارثة بشرية تأريخية قول لا يجانب الصواب أبداً ، بل القول المعاكس هو الخطأ تماماً . وما كانت البشرية لتصل إلى هذا الواقع المرير من القلق والرعب والانفعال ، لو كانت اعتمدت على أسس أفضل ومعتمدات أرقى . فهي تعمّدت ظلم نفسها باعتمادها على المادة المجردة ، وتناسيها آيات خالق المادة . وعلى هذا فإن جزاءها العادل ، هو استمرار الرعب والقلق والانفعال الشيطاني ، ثم حدوث الكارثة فضلاً عمّا ينتظرها من عذاب في يوم القيامة ، يوم الحساب العادل .
إنّ اللَّه عزّ وجلّ يؤكد سنّته الثابتة بقوله المجيد : ﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ ... ﴾
أي إنّ اللَّه يعاقب كل فرد وكل مجتمع وكل حضارة بعقوبة تتجانس والشيء الذي حاولت عبره تحدّيه . وها هي آيات اللَّه العجيبة تترى علينا كل يوم ونراها بأمّ أعيننا ، فضلاً عمّا قص علينا القرآن الكريم من قصص المدنيات القديمة التي أصيبت بذات السلاح الذياتخذته لنفسها حامياً ودرعاً .
إن طغاة المعلومات اليوم يظنون بأنهم توصلوا إلى قمة العلم ، وأنه من الصعب التطور أبعد من ذلك . وهذا ما يطلقون عليه بنظرية حافّة التأريخ فيما يخص الصراع البشري وتطور البشرية ،
غافلين عن قول اللَّه تعالى : ﴿ ... وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ ومتغافلين أيضاً عن أنهم ما يظلمون إلاّ أنفسهم بنظريتهم هذه .
إنّ هؤلاء الذين اتخذوا من العلم ولياً من دون اللَّه ، إنما كيانهم ككيان العنكبوت المعرض للزوال بأدنى ريحٍ وحركة .
وها هي سنّة اللَّه الثابتة نراها تتكرر يومياً وبين لحظة وأخرى ؛ إذ من يعتمد على القوّة يهزم بالقوة ، ومن يعتمد على مؤسسات الأمن والمخابرات تنقلب عليه هذه المؤسسات فتبيده ، ومن يعتمد على الإمكانات المادية ينسحق بها .
أمّا الإنسان المؤمن ، فإن من شأنه توحيد اللَّه والاعتماد عليه ، لأن اللَّه لا يهدي إلاّ إلى الخير
بل ذلك قانون كتبه اللَّه على نفسه ، فقال سبحانه : ﴿ ... وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ... ﴾ سواء كان حاكماً أم محكوماً ، جاهلاً أم مجتهداً . .
بلى ؛ إن من الممكن أن يتخذ المرء أغراض الدنيا وإمكاناتها وسيلة إلى الكمال والتقرب إلى صاحب الكمال المطلق ، وهو اللَّه جل وعلا ، دون أن تتحول هذه الوسيلة إلى مركز ثقل واعتماد . فالذكاء والخبرة والمادة والجنود كلّها ينبغي أن تكونمجرد وسيلة نحو الإقرار بوحدانية اللَّه وقدرته وجبروته وتحكمه بمجريات الأمور.
سماحة السيد محمد تقي المدرسي
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال تعالى: ﴿ وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ * وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ * فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾
الشرف العظيم والقوة الكبرى والركن الشديد أن يؤمن الإنسان باللَّه وحده ، ويعتمد عليه وحده ، ويتوكل عليه وحده. فالتوحيد أعظم شرف يتشرف به ابن آدم ، وأقوى ركن يعتمد عليه ، وأفضل وسيلة يتوسل بها . أما الشرك ؛ فهو ضعف وذل وهوان .
وعلينا ـ ونحن نتلو آيات القرآن المجيد ـ أن نتبصّر ذلك النور الفياض منها ؛ ابتداءً من باء ﴿ بِسْمِ اللَّهِ ... ﴾ ، وانتهاءً بسين ﴿ ... وَالنَّاسِ ﴾ .
ولعلّ من أعظم أنوار القرآن ؛ نور الهداية إلى اللَّه سبحانه وتعالى . وقد ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام : ( لقد تجلى اللَّه لخلقه في كلامه ، ولكنهم لا يبصرون )
فإذا كنّا لا نبصر ولا نسمع ولا نعقل ، فلماذا وهبنا اللَّه تبارك وتعالى السمع والبصر والفؤاد ؟
إنّ القرآن الكريم كتاب التوحيد ، ومفتاح فهم هذا الكتاب هو معرفة اللَّه عزّ وجل ، ومن ضلّ عن ربّه فقد ضلّ ضلالاً بعيداً ، ومن لم يجعل اللَّه له نوراً فما له من نور . والشرك هو الضلالة الكبرى والتيه الأكبر . .
ومن أجل توضيح هذه الفكرة التي استوحيها من آيات مباركات من سورة العنكبوت ، لابد أنّ أضرب لكم مثلاً فيذلك ، لأن الأمثال تقرب الحقائق ، فأقول ؛ من يقصد منطقة معينة فيركب صهوة حصان هائج ، لن يصل إلى مقصوده ،ولن يفلح راكب سيارة ذات فرامل ضعيفة في الوصول بسلام ، ولن ينجو الغريق إذا ما توسّل بقشّة . .
وكذلك الإنسان إذا ما اعتمد على غير اللَّه ، فإنه سيتأكد في نهاية المطاف أنّ ( هذا الغير ) ليس لن ينفعه فقط ،وإنّما سيضره أيضاً . فهذا الغير سيتحول إلى وسيلة هدم لحياته .
فلقد اعتمد فرعون على قدرته الاقتصادية والزراعية وثروته المائية ، حتى قال : ﴿ ... وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ... ﴾
إشارة إلى تسلطه المطلق على نهر النيل ، وأنّه يسيره كيف شاء . لكن هذا النهر هو الذي غرق فيه فرعون وأصبح بذلك آية للعالمين .
وتلك عادٌ الأولى التي كانت قبيلة قوية ، ذات شوكة و بطش وجبروت ، كانت تقطن في الطرف الشمالي للجزيرة العربية ، متشبّثة ببيوتها وصخورها ، إذ نحتت من الجبال بيوتاً ، فأرست قواعد حضارتها ، إلاّ أنها لفرط اعتمادها على صخورها وحصونها دمّرها اللَّه بذات الصخور .
إذن ؛ قانون وسنّة إلهية ، مفادها ضرورة فتح الإنسان لعينيه وأذنه وعقله ليرى حقيقة التأريخ ، وأنّ من يحجم عن ذلك ويريد ابتداع سنّة كونية من عند نفسه ، أو يهدف محاربة السنن الإلهية في الكون ، فإن عقاب اللَّه سيقف له بالمرصاد ،حيث سيدمّر ويمحق بذات الشيء الذي اعتمد عليه من دون اللَّه .
أتعلمون أن أبا مسلم الخراساني هو الذي أقام حكومة أبي العباس السفاح والمنصور العباسي ، ولكنّهما هما اللذان قتلاه . والبرامكة على عظمة صيتهم رفعوا هارون العباسي إلى سلطان الهيبة والاقتدار ، فما كان منه إلاّ أن بدأ بهم فقتلهم شرَّ قتلة . ذلك لأنهم وأمثالهم ممن يعينون الطغاة ، يتغافلون عن الحقيقة الإلهية القائلة : بأنّ من اعتمد على غير اللَّه ذلّ .
ولعل في صعود وأفول نجم الحضارات البشرية عبر التأريخ أمثلة ومصاديق لذلك .
والمثل الجديد الذي أرغب في إيضاحه لكم هو مَثل الثورة المعلوماتية الجديدة التي تعتمدها الحضارة البشرية الراهنة ، وكيف أن هذه الحضارة التي لا تتخذ من الحق والعدل والحرية وكرامة الإنسان مرتكزاً لها ، سيكون مصيرها نفس مصير ما سبقها من حضارات ، وكيف أنّها تعيد عجلة التأريخ على نفسها وكأنّها غير معنيّة بما سبق للبشرية أن ذاقته منعذاب إلهي شديد . . .
أتحدّث معكم ونحن في مطلع القرن الواحد والعشرين ، حيث مرت علينا سنة الألفين ، وعاش فيها العالم أزمة الكومبيوترات الكبرى ، المبني نظامها أساساً على رقمين هما واحد وصفر أو صفر وصفر ؛ أي صفران . ولما كانت سنة ألفين تحوي ثلاث أصفار ، فإنّ أجهزة الكومبيوتر الحاوية لمليارات المليارات من المعلومات ، والتي أضحت القائد والموجّه لمعظم الأجهزة التكنولوجية في العالم عموماً والغرب على الخصوص ؛ وما فيها من صواريخ وطائرات ومطارات وقطارات وبنوك وبورصات وأقمار صناعية وغير ذلك ، كلّها عانت الرعب أن تصاب بالعطل ، لو لم يعثر على حلّ مجدٍ لتلك الأزمة الكبرى .
إن هذا الغلط البسيط كان له أن يتسبّب بحدوث كارثة عظمى ، حسب ما أكد رئيس لجنة كارثة الألفين في مجلس الشيوخ الأميركي .
إذ أكد أنه بعد سنة ألفين ستتوقف القطارات ، لأنّها تعتمد على الكومبيوتر ، وكان متوقعاً في أول يوم من هذه السنة أن تتعطل الأقمار الصناعية وأنظمة الاتصال ومحطات الوقود والطائرات وكل الكومبيوترات مركّبة بطريقة غير صحيحة .
ولقد انكبّ العلماء والمتخصّصون على اكتشاف حلٍّ لهذه المعضلة التأريخية .
ولكنّ العالم المهدّد بسبب بسيط ، وهو عدم قدرة الكومبيوتر على التجانس مع قراءة رقم ألفين وما بعده ، هذا العالم من الممكن جداً أن يتعرض لمشكلة وكارثة أكبر وأخطر إذا ما توقفت كل الأجهزة المعلوماتية وأجهزة الاتصال ، لأنّه يعتمد على نظام شركي ، قوامه الأوّل الأمواج التي تثير الأجهزة وتحركها وتمنحها مزيداً من الدقة في الفعل وردّ الفعل . فهذه الصواريخ كلها تتوجّه وتعمل عبر الأمواج ، وإذا ما أمكن تعطيل حركة الأمواج ، فإنها ـ الصواريخ ـ ستنتهي إلى احتمالين ؛ إمّا التصويب غير الدقيق ، وهذا يعني نهاية العالم . واحتمال آخر هو التوقّف عن العمل أساساً .
إنّ عجز الكومبيوتر ليس بالشيء الغريب أبداً ، فإن لدينا من القصص والتجارب العديدة ما يؤيد ويسهل هضم هذه الحقيقة الملموسة . فهذا العالم الفيزيائي الشهير ( ألبرت أنشتاين ) الذي يقال إن حجم دماغه كان أكبر من الأحجام المعتادة بنسبة ثلاثين بالمائة من الأدمغة الطبيعية للناس . . وكان ذا قدرة عجيبة على التحليل واكتشاف القوانين والنظريات ، وآخرها نظرية النسبية المعروفة . هذا الرجل ـ على عظمة قدرته الرياضية ـ كثيراً ما كان يفشل في كتابة أو قراءة الرقم ( 2 ) ، مما كان يتسبب في وقوعه في المشاكل والإزعاجات اليومية . ولما كانت قدرة العقل البشري المتوسط يفوق بمليارات المرات قدرة أدق وأحدث كومبيوتر مخترع ، فما بالك بالفارق الذي لا يوصف والذي يميّز عقل أنشتاين عن جهاز الكومبيوتر المشار إليه ؟
وما أريد تأكيده هنا ، هو القول بأنّ احتمال أو توقع حصول خطأ تكنولوجي في الاختراع أو طريقة الاختراع من قبل المخترعين أمر في غاية الصحّة ، وأنّ القول بحصول كارثة بشرية تأريخية قول لا يجانب الصواب أبداً ، بل القول المعاكس هو الخطأ تماماً . وما كانت البشرية لتصل إلى هذا الواقع المرير من القلق والرعب والانفعال ، لو كانت اعتمدت على أسس أفضل ومعتمدات أرقى . فهي تعمّدت ظلم نفسها باعتمادها على المادة المجردة ، وتناسيها آيات خالق المادة . وعلى هذا فإن جزاءها العادل ، هو استمرار الرعب والقلق والانفعال الشيطاني ، ثم حدوث الكارثة فضلاً عمّا ينتظرها من عذاب في يوم القيامة ، يوم الحساب العادل .
إنّ اللَّه عزّ وجلّ يؤكد سنّته الثابتة بقوله المجيد : ﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ ... ﴾
أي إنّ اللَّه يعاقب كل فرد وكل مجتمع وكل حضارة بعقوبة تتجانس والشيء الذي حاولت عبره تحدّيه . وها هي آيات اللَّه العجيبة تترى علينا كل يوم ونراها بأمّ أعيننا ، فضلاً عمّا قص علينا القرآن الكريم من قصص المدنيات القديمة التي أصيبت بذات السلاح الذياتخذته لنفسها حامياً ودرعاً .
إن طغاة المعلومات اليوم يظنون بأنهم توصلوا إلى قمة العلم ، وأنه من الصعب التطور أبعد من ذلك . وهذا ما يطلقون عليه بنظرية حافّة التأريخ فيما يخص الصراع البشري وتطور البشرية ،
غافلين عن قول اللَّه تعالى : ﴿ ... وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ ومتغافلين أيضاً عن أنهم ما يظلمون إلاّ أنفسهم بنظريتهم هذه .
إنّ هؤلاء الذين اتخذوا من العلم ولياً من دون اللَّه ، إنما كيانهم ككيان العنكبوت المعرض للزوال بأدنى ريحٍ وحركة .
وها هي سنّة اللَّه الثابتة نراها تتكرر يومياً وبين لحظة وأخرى ؛ إذ من يعتمد على القوّة يهزم بالقوة ، ومن يعتمد على مؤسسات الأمن والمخابرات تنقلب عليه هذه المؤسسات فتبيده ، ومن يعتمد على الإمكانات المادية ينسحق بها .
أمّا الإنسان المؤمن ، فإن من شأنه توحيد اللَّه والاعتماد عليه ، لأن اللَّه لا يهدي إلاّ إلى الخير
بل ذلك قانون كتبه اللَّه على نفسه ، فقال سبحانه : ﴿ ... وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ... ﴾ سواء كان حاكماً أم محكوماً ، جاهلاً أم مجتهداً . .
بلى ؛ إن من الممكن أن يتخذ المرء أغراض الدنيا وإمكاناتها وسيلة إلى الكمال والتقرب إلى صاحب الكمال المطلق ، وهو اللَّه جل وعلا ، دون أن تتحول هذه الوسيلة إلى مركز ثقل واعتماد . فالذكاء والخبرة والمادة والجنود كلّها ينبغي أن تكونمجرد وسيلة نحو الإقرار بوحدانية اللَّه وقدرته وجبروته وتحكمه بمجريات الأمور.
سماحة السيد محمد تقي المدرسي
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين