اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وأهلك أعدائهم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الأسرار الباطنية للـســـــجــود
هل المطلوب منا ما وراء الرسالة العملية؟.. أوَ ليست الرسالة العملية متكفلة ببيان أحكام الصلاة؟..
إنّ الذي كتبَ الرسالة العملية، اعتمد على روايات أهل البيت -عليهم السلام- فالفقيه يأتي بالأحكام من الكتاب، والسُنة المتمثلة بالنبي وآله.. وعليه، فإن مصدر الفقه الأصغر -الرسالة العملية-؛ هو الروايات.. وهذهِ الروايات بنفسها أيضاً تشيرُ إلى ملكوت الصلاة، وإلى جوهر الصلاة.. فالذي علمنا الظاهر، علمنا الباطن.. والذي ذكرَ الفقه، ذكرَ ما وراء الفقه.. والروايات التي تشير إلى ملكوت الصلاة كثيرة، ومنها هذهِ الرواية عن الإمام الصادق -عليه السلام-.
روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال:(ما خسر -والله- من أتى بحقيقة السجود، ولو كان في العمر مرّة واحدة).. أي من أدى سجدة واحدة في العمر، ولكن بشرطها وشروطها؛ هذا الإنسان ما خَسر، والإنسان الذي لا يخسر؛ يكون رابحاً {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}.. وقال (ع) أيضاً: (وما أفلح من خلا بربه في مثل ذلك الحال شبيهاً بمخادع لنفسه)؛ أي لا تخدع نفسكَ، في السجود هيئتك هيئة متقرب، أما قلبك فإنه يذهب إلى كُلِّ مكان.. ولكن كيفَ نسجد؟.. يقول (ع): (فاسجد سجود متواضع لله -تعالى- ذليل، علم أنه خلق من تراب يطؤه الخلق، وأنه اتخذك من نطفة يستقذرها كل أحد)؛ أي أنتَ أصلكَ من التراب، فقد خلقَ اللهُ -عز وجل- آدم من التراب، الذي هو أرخص شيء في الوجود، تدوسهُ الأقدام، ثُمَّ خلقه من نطفة من منيٍّ يمنى، هذهِ المادة النجسة.. واتخذهُ لنفسهِ خليلاً، واصطنعهُ لنفسه {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}.. أنظروا إلى قوس الصعود، ومنتهى الحركة!..
إن الإنسان القائم يرى أمامهُ المناظر، والراكع يرى حولهُ قليلاً، ولكنَ الساجد ماذا يرى في سجوده؟.. وجههُ على الأرض، وخاصة إذا كانت التربة غير مرتفعة، يكون أنفهُ لاصقاً بالأرض، وعينهُ قريبة من الأرض، فلا يرى شيئاً، يتوارى عن جميع الأشياء!.. يقول (ع): (كذلك أمر الباطن، فمن كان قلبه متعلقا في صلاته بشيء دون الله -تعالى- فهو قريب من ذلك الشيء، بعيد عن حقيقة ما أراد الله منه في صلاته، قال عز وجل: {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ})؛ أي هذهِ حركةٌ ظاهرية، وربّ العالمين أرادَ ما وراء السجود.
يقال بأن في السجدة الثانية قد يكون هناك إقبال أكثر من السجدة الأولى؛ لوجود صيغة الاستغفار بين السجدتين.. فعندما يقول المصلي: (أستغفر الله ربي وأتوب إليه) بين السجدتين؛ فإنها محطة من محطات الإنابة إلى الله -عز وجل- فلو قالها بتوجه في كل يوم، وفي كل صلاة كم يربح؟.. إن المصلي يستغفر الله -عز وجل- بعدد ركعات اليوم، فليتخذها محطة تأملية شعورية، فعندما يستغفر بكل وجوده، ثم يسجد السجدة الثانية، يرجى أن تفتح له أبواب السماء أكثر من السجدة الأولى؛ لأنها طاعة بعد استغفار.
كذلك الإلتفات إلى مسألة التكبيرة، فالمصلي عندما يقوم من السجود يكبر، وعندما يهوي يكبر.. فليجمع بين حالة التذلل، وهي وضع الجبهة -التي هي أشرف مكان- على التراب، وتذكر عظمة رب الأرباب.. فذلة الإنسان تكون في تلك الحالة إلى أبعد الحدود، ويتذكر عظمته إلى أبعد الحدود؛ عندئذ يعيش الإنسان حالة من حالات التفاعل بين يدي الله عز وجل.. ويستحب أن تكون السجدة على تلك التربة، التي أريق عليها دم الحسين صلوات الله وسلامه عليه.
إنه من المناسب عندما يسجد الإنسان -ولو بين فترة وأخرى- أن يتذكر السجود الأخير لسيد الشهداء -صلوات الله وسلامه عليه- عندما خرّ لربه عابداً ساجداً، مضمخاً بدمائه.. يقول الإمام الصادق عليه السلام: (إنّ السجود على تربة أبي عبدالله الحسين -عليه السلام- يخرق الحجب السبعة)، فإذا سجد المصلي على هذه التربة الطاهرة المباركة؛ مستشفعاً إلى الله -عز وجل- بذلك الدم الذي أريق لأجل السجود، وذلك الدم الذي أريق لأجل الصلاة.. ما الضير في ذلك؟!.. فهو -عليه السلام- خرج لطلب الإصلاح في أمة جده عليه أفضل الصلاة وعلى آله.. إن هذه التربة تذكرنا: بالشهادة، وبالتوحيد، وبالتهليل، وتذكرنا بقول أبي عبد الله عليه السلام: (لا معبود سواك).
بركات السجود:
إن أصحاب الحوائج: الكبيرة والصغيرة، الماديةِ والمعنوية؛ عليهم بهذا العمل الذي هو تُحفة من تحف أهل البيت -عليهم السلام-.. العمل بسيط، ولكن يرجى لمن أرادَ أن يقوم بهذا العمل، أن يؤديه بشرطه وشروطه.. البعضُ منا عندما يقوم بعمل، يقومُ بهيكل العمل، والهيكل -القالب- بلا قلب لا أثرَ له.. ينقل الحر العاملي في كتابهِ "الوسائل" عن الإمام الصادق -عليه السلام- اقتراحاً لذوي الحوائج، ويدعوهم إلى هذهِ الصلاة النادرة، ومن منا ليست لهُ حوائج: إما للدنيا، أو للآخرة؟!.. يقول (ع): (إذا قام العبد نصف الليل بين يدي ربـه، فصلى له أربع ركعات في جوف الليل المظلم، ثم سجد سجدة الشكر بعد فراغه، فقـال: ما شاء الله، ما شاء الله (مائة مرة)؛ ناداه الله -جل جلاله- من فوق عرشه: عبدي، إلى كم تقـول: ما شاء الله؟!.. أنا ربك، وإليّ المشيئة، وقد شئتُ قضاء حاجتك؛ فسلني ما شئت)!..
فإذن، إن الإنسان لا ينسى هذه الصلاة في الشدائد، وفي الأهوال، وفي العقبات، وفي النكبات؛ ومنها قسوة القلب.. فالبعض يكتئب عندما تكون صلاته غير خاشعة، وكأن هناك كارثة نزلت عليه.. المؤمن يصل إلى درجة تصبح عينهُ على هذهِ الأمور، فلا يكتئب من أجل فوات درهمٍ أو دينار، أو هبوطِ أسهمٍ أو سِلعةٍ، أو ما شابه ذلك.
هذا الوجه الذي سَجدَ لله -عزَ وجل- في الليل أو في النهار؛ هذا الوجه وجه مبارك.. ولهذا قال الإمام الصادق -عليه السلام- لرجل: (إذا أصابك همّ فامسح يدك على موضع سجودك، ثم أمرَّ يدك على وجهك من جانب خدّك الأيسر، وعلى جبهتك إلى جانب خدّك الأيمن، ثم قل: بسم الله الذي لا إله إلاّ هو، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم.. اللهم!.. اذهب عنّي الهمَّ و الحزن.. ثلاثاً).. هذا المكان مكان مُقدس، ومكان طاهر، عن الإمام الحسن (عليه السلام): (إذا لقي أحدكم أخاه، فليقبل موضع النور من جبهته).
:: الشيخ حبيب الكاظمي ::