في مَهَبّ العاصفة
المريضة المعافاة: أكرم پاكدل
المرض: تعفّن الكلية
تاريخ الشفاء 6 / 8 / 1997
ـ ماما.. ماما! رِجلي تتقطّع من الألم!
اخترق بكاءُ الطفلة سكونَ ليل البيت، فأفاقت الأمّ من نومها مذعورة، وراحت تحدّق في الساعة الجداريّة بعينين حمراوَين.. وكانت عقارب الساعة تُخبر عن الرابعة صباحاً. ومن ظرف دواء أكرم أخرجت فاطمة قرصاً مهدّئاً ووضعته في فم ابنتها. إنّ جسدها الصغير ليتلظّى من سخونته. عمدت الأمّ إلى كمّادة قماش مبلولة وجعلتها على جبهة أكرم التي أخذت تنزلق رويداً رويداً إلى النوم. اعتصر قلب الأمّ وتغضّنت أسارير وجهها وهي تشاهد وجه ابنتها المعذَّب. وكان صوت الطبيب ما يزال يطنّ في أُذنيها:
ـ الكُلية عضو حسّاس، والمؤسف أنّ مرض ابنتك في مراحله المتقدّمة. التعفّن سرى إلى رجليها.
إنّ فكرة فقدان أكرم كانت تعصف بها من الأعماق، وتملأ عينيها بالدموع:
ـ لماذا أنتِ ؟! لماذا أنتِ يا ابنتي ؟!
أجهشت باكية، فتحدّرت دموعها على الخدّين. نهضت من مكانها، ومضت إلى نافذة الفندق تفتحها، فداعبت نسائم السَّحَر وجهها. تنفّست نفساً عميقاً.. كأنّها تريد أن تتغلّب به على أفكارها المحتدمة. ومن بعيد حكانت قبّة حضرة الإمام الرضا عليه السّلام تلوح متلألئة في قلب المدينة كجوهرة مشرقة. وإذ كانت تتطلّع إلى مشهد القبّة تداعى إليها النوم الذي حُرمَتْه عدّة ليال. وبنبرةٍ رحيمة قال لها رجل يرتدي ثوباً أبيض ذا نطاق من شال أخضر:
ـ يا ابنتي.. لماذا لا تأتين إليّ في دار الشفاء ؟
وفكّرت المرأة: يعني ممكن.. ممكن أن يشفي الإمام الرضا ابنتي ؟!
غمرت المرأة حيويّة وملأها النشاط، فشرعت تسلّم على الإمام من صميم الفؤاد.
* * *
كان بياض الصبح يتهادى من قلب الليل حينما تناهى إلى أُذنها صوت باب غرفة المنزل يُفتَح. إنّه زوجها عبّاس قد عاد من نوبة عمله متعباً. ألقى عليها تحيّة، وجال بنظراته المكتئبة في أنحاء الغرفة، ثمّ أخذ يحدّق في البنت الصغيرة. ها هي حمامة عبّاس وفاطمة في مهبّ العاصفة مَهيضة الجناح. إنّ عليه أن يُودِع أيّام دفء الطفولة العذبة في صندوق الغرفة.. باستسلام إلى فراش المرض.
دنا الأب من ابنته. كان وجهها الشاحب تعلوه حبّات من العرق. سأل عبّاس:
ـ فاطمة.. كيف كانت أكرم البارحة ؟
هزّت الأمّ رأسها علامة للنفي. رفع الأب الكمّادة من جبهة البنت، ليجفِّف بها عرق وجهها. قالت الأمّ:
ـ أقول عبّاس.. نحن أخذنا البنت إلى أطبّاء كثيرين ولم نستطع مداواتها. تعال نأخذها إلى الإمام الرضا عليه السّلام الذي يداوي أمراض الجميع.
تطلّع الأب إلى وجه ابنته الذي يعلوه الشحوب، وقال:
ـ نعم، أنا فكرّت في هذا أيضاً. في الأسبوع القادم ذكرى وفاة النبيّ صلّى الله عليه وآله والإمام الحسن والإمام الرضا عليهما السّلام.. نأخذها إلى الحضرة، لعلّ الله يمنّ علينا بحرمة هذه الليالي.
* * *
ورقة التقويم الحمراء تشير إلى اليوم التاسع والعشرين من صفر. وعلى عبّاس وفاطمة أن يمضيا الآن إلى الحضرة، لعلّ طبيب القلوب المنكسرة يعافي ابنتهما، ويمسح قلبيهما ببلسم الاطمئنان، وتنجو سفينة حياتهما من دوّامة البلاء. إنّهما إنّما جاءا إلى مشهد تقرّباً إلى الله تعالى بزيارة الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام، ليشتركا في مأتم ليل شهادة الإمام الغريب.
* * *
جموع الناس الذين يرتدون ثياب الحِداد.. يلجأون إلى الحضرة المقدّسة، ليضمن الإمام تفريج همومهم عند الله. لقد اجتمع المحبّون ليبكوا ظُلامة شمس الشموس الساطعة أبداً، والجاذبة إليها فراشات المحبّة، وليستمدّوا من جمال خُلقه وإخلاصه ويقينه دروس الإيثار والفتوّة والتوحيد. والراثون الكِثار في صحون الحضرة وما حولها يعبّرون عن مودّتهم وتفجّعهم بالشعر الذي ينشدونه في مواكب العزاء. كلّهم جاءوا ليصرخوا صرخة تتفجّر من العَبرة المكتومة المختنقة في حنجرة التاريخ. وكانت صيحات الأسى والمأتم تتجاوب في أنحاء الصحن العتيق. إنّها لخطات مفعمة بمذاق الملكوت.. ترفرف فيها مشاعر قدسيّة قيّمة تغمر المكان وتحيي القلوب. وأفواج الملائك، من وراء حُجُب الغيب، تنظر إلى قلوب المحبّين الملتهبة الباكية على ظلامة خير البريّة في العالمين.
اتّجه الأب والأمّ وابنتهما تلقاء النافذة الفولاذية، فشقّوا طريقهم بين الجموع المحتشدة بعسر.. حتّى بلغوا قريباً من النافذة.
أكرم كانت تحسّ أن هذه الليلة ليست كالليالي. كانت في حالة طيّبة.. حالة سماويّة عابقة. وشعرت أنّ عقدة حاجتها قد انحلّت، وتفضّل عليها الإمام بالرأفة والخلاص.
جلست الأمّ منحنية وهي تحتضن صغيرتها.. وسرحت بالأفكار. خطرت في ذاكرتها حادثة يوم أمس حين تمزّق وريد صغيرتها العزيزة لمّا أرادوا زَرقَ الإبرة. ازرقّت شفتا الأمّ وجفّ فمها، وكان يغطّي جسمَها عرق بارد. وعندها سترت الأمّ وجهها بكفّيها وانتحبت باكية. إنّ طائر قلبها المضطرب لا يكفّ عن الخفقان ما دامت ابنتها لم تَحظَ بالعافية. تذكّرت فاطمة هذا فهملت مدامعها.. غير أنّ برعم أمل كان يتفتح في قلبها مع كلّ قطرة تنحدر من العينين. وانبعث نسيم طريّ مُحبَّب يهبّ في داخلها ماسحاً عن قلبها ما تكدّس عليه من غبار الأسى والحزن.
إنّ مرض أكرم كان عاصفة غَضْبى تكاد تقوّض قلعة أحلام فاطمة وعبّاس. أمّا الرجل فقد اشتدّ به ضيق صدره وقذف به إلى الماضي.. يوم كانت أكرم تحوم حوله كفراشة زاهية مقبّلةً محيّاه. ارتسمت على شفتيه ابتسامة باردة، ومن عمق وجوده هتف:
ـ يا عليّ بن موسى الرضا.. لا تردّنا عن بابك خائبين.
وغلب عليه حزن صدره، فجرت دموعه ساخنة على الخدّ.. في حين كان بصره مشدوداً إلى المرضى المكروبين من حوله: أحدهم مصاب بداء السرطان العُضال. والآخر طفل مشلول مستلقٍ إلى جوار أبيه، وما يفتأ أبوه يداعبه ويناغيه. في ناحية أخرى كانت أمّ تدلك رِجلَي ولدها، لعلّها تعيد إليهما رمق الحياة. كلّهم جاءوا إلى محضر حجّة الله ثامن أئمّة الهدى يسكبون الدموع ابتغاءً للطهر والصفاء، ولينالوا مرادهم على يد خير عبيد الله.
في تلك الأثناء انسربت أكرم في هدأةٍ حالمة إلى غفوة نوم دُهش أبَواها لهدوئها فيها. كانا عاكفين على الضراعة والمناجاة. وكان صوت القرآن العذب يملأ المكان بمعنوية مرفرفة شفّافة. كان المقرئ يرتّل آيات من سورة الرحمان. وكان صوت بكاء المرأة يتعالى لحظةً بعد لحظة. قال الرجل:
ـ أيّها... الـ.. إمام.. الـ.. رضا!
واحتُبِس صوتُه في حنجرته، فلم يستطع أن ينطق بحرف!
* * *
أفاقت أكرم من غفوتها صائحةً بلهفة:
ـ السيّد الذي يرتدي البياض.. أين ذهب ؟!
امتزجت نظرات عبّاس المندهشة بنظرات فاطمة الحَيْرى. سأل الأب:
ـ أيّ سيّد يا ابنتي ؟!
قالت أكرم بنبرة مرتجفة:
ـ السيّد الذي جاء وقال: « لماذا أنتِ مهمومة يا ابنتي » ؟ قلت: رِجلي توجعني. ومسح بيده على خاصرتي وقال: « اذهبي فقد شُفيتِ ».. ألَم تَرَوه أنتم ؟!
فطنت الأمّ إلى أنّ عقدة الحاجة قد انحلّت. قالت:
ـ عبّاس! انظر.. انظر! الحبل محلول من يد أكرم!
تناول الأب طرف الحبل وعقده على معصم الطفلة عدّة مرّات. وحرّكت أكرم يدها حركة خفيفة.. فانساب الحبل من معصمها ووقع في حضنها!
إنّ الغمّ المُمِضّ الذي سلبهما الراحة والاستقرار عدّة أشهر قد انزاح عن كاهليهما في لحظة رضويّة مقدّسة، وبدأت تنعش حياتهما نسمات المسرّة والهناء. لقد انعتقت أكرم الصغيرة من ويلات دائها التي كانت تحاصرها كنبتة مصفرّة تكاد تقتلعها الريح العاتية إلى الأبد، وبدأ محيّاها يشرق وأساريرها تنبسط بابتسامة رائقة فازت بها هِبَةً من ألطاف غيب الرضا صلوات الله عليه.
وشهد الزائرون لحظات الاستجابة الرضوية النفيسة، فماجت قلوبهم بالوجد والشوق والأمل، وتطلّعت ضمائرهم إلى الفوز بحياة أخرى رغيدة هي خير ممّا يجمعون.. حياة مغسولة بنور الرضا عليه السّلام، ومكتحلة عيونُها القريرة بمودّة شمس الشموس وأنيس النفوس.
(ترجمة وإعداد إبراهيم رفاعة، من مجلة الحرم، ص 49 ـ 50، العدد 49 ـ 50)
المريضة المعافاة: أكرم پاكدل
المرض: تعفّن الكلية
تاريخ الشفاء 6 / 8 / 1997
ـ ماما.. ماما! رِجلي تتقطّع من الألم!
اخترق بكاءُ الطفلة سكونَ ليل البيت، فأفاقت الأمّ من نومها مذعورة، وراحت تحدّق في الساعة الجداريّة بعينين حمراوَين.. وكانت عقارب الساعة تُخبر عن الرابعة صباحاً. ومن ظرف دواء أكرم أخرجت فاطمة قرصاً مهدّئاً ووضعته في فم ابنتها. إنّ جسدها الصغير ليتلظّى من سخونته. عمدت الأمّ إلى كمّادة قماش مبلولة وجعلتها على جبهة أكرم التي أخذت تنزلق رويداً رويداً إلى النوم. اعتصر قلب الأمّ وتغضّنت أسارير وجهها وهي تشاهد وجه ابنتها المعذَّب. وكان صوت الطبيب ما يزال يطنّ في أُذنيها:
ـ الكُلية عضو حسّاس، والمؤسف أنّ مرض ابنتك في مراحله المتقدّمة. التعفّن سرى إلى رجليها.
إنّ فكرة فقدان أكرم كانت تعصف بها من الأعماق، وتملأ عينيها بالدموع:
ـ لماذا أنتِ ؟! لماذا أنتِ يا ابنتي ؟!
أجهشت باكية، فتحدّرت دموعها على الخدّين. نهضت من مكانها، ومضت إلى نافذة الفندق تفتحها، فداعبت نسائم السَّحَر وجهها. تنفّست نفساً عميقاً.. كأنّها تريد أن تتغلّب به على أفكارها المحتدمة. ومن بعيد حكانت قبّة حضرة الإمام الرضا عليه السّلام تلوح متلألئة في قلب المدينة كجوهرة مشرقة. وإذ كانت تتطلّع إلى مشهد القبّة تداعى إليها النوم الذي حُرمَتْه عدّة ليال. وبنبرةٍ رحيمة قال لها رجل يرتدي ثوباً أبيض ذا نطاق من شال أخضر:
ـ يا ابنتي.. لماذا لا تأتين إليّ في دار الشفاء ؟
وفكّرت المرأة: يعني ممكن.. ممكن أن يشفي الإمام الرضا ابنتي ؟!
غمرت المرأة حيويّة وملأها النشاط، فشرعت تسلّم على الإمام من صميم الفؤاد.
* * *
كان بياض الصبح يتهادى من قلب الليل حينما تناهى إلى أُذنها صوت باب غرفة المنزل يُفتَح. إنّه زوجها عبّاس قد عاد من نوبة عمله متعباً. ألقى عليها تحيّة، وجال بنظراته المكتئبة في أنحاء الغرفة، ثمّ أخذ يحدّق في البنت الصغيرة. ها هي حمامة عبّاس وفاطمة في مهبّ العاصفة مَهيضة الجناح. إنّ عليه أن يُودِع أيّام دفء الطفولة العذبة في صندوق الغرفة.. باستسلام إلى فراش المرض.
دنا الأب من ابنته. كان وجهها الشاحب تعلوه حبّات من العرق. سأل عبّاس:
ـ فاطمة.. كيف كانت أكرم البارحة ؟
هزّت الأمّ رأسها علامة للنفي. رفع الأب الكمّادة من جبهة البنت، ليجفِّف بها عرق وجهها. قالت الأمّ:
ـ أقول عبّاس.. نحن أخذنا البنت إلى أطبّاء كثيرين ولم نستطع مداواتها. تعال نأخذها إلى الإمام الرضا عليه السّلام الذي يداوي أمراض الجميع.
تطلّع الأب إلى وجه ابنته الذي يعلوه الشحوب، وقال:
ـ نعم، أنا فكرّت في هذا أيضاً. في الأسبوع القادم ذكرى وفاة النبيّ صلّى الله عليه وآله والإمام الحسن والإمام الرضا عليهما السّلام.. نأخذها إلى الحضرة، لعلّ الله يمنّ علينا بحرمة هذه الليالي.
* * *
ورقة التقويم الحمراء تشير إلى اليوم التاسع والعشرين من صفر. وعلى عبّاس وفاطمة أن يمضيا الآن إلى الحضرة، لعلّ طبيب القلوب المنكسرة يعافي ابنتهما، ويمسح قلبيهما ببلسم الاطمئنان، وتنجو سفينة حياتهما من دوّامة البلاء. إنّهما إنّما جاءا إلى مشهد تقرّباً إلى الله تعالى بزيارة الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام، ليشتركا في مأتم ليل شهادة الإمام الغريب.
* * *
جموع الناس الذين يرتدون ثياب الحِداد.. يلجأون إلى الحضرة المقدّسة، ليضمن الإمام تفريج همومهم عند الله. لقد اجتمع المحبّون ليبكوا ظُلامة شمس الشموس الساطعة أبداً، والجاذبة إليها فراشات المحبّة، وليستمدّوا من جمال خُلقه وإخلاصه ويقينه دروس الإيثار والفتوّة والتوحيد. والراثون الكِثار في صحون الحضرة وما حولها يعبّرون عن مودّتهم وتفجّعهم بالشعر الذي ينشدونه في مواكب العزاء. كلّهم جاءوا ليصرخوا صرخة تتفجّر من العَبرة المكتومة المختنقة في حنجرة التاريخ. وكانت صيحات الأسى والمأتم تتجاوب في أنحاء الصحن العتيق. إنّها لخطات مفعمة بمذاق الملكوت.. ترفرف فيها مشاعر قدسيّة قيّمة تغمر المكان وتحيي القلوب. وأفواج الملائك، من وراء حُجُب الغيب، تنظر إلى قلوب المحبّين الملتهبة الباكية على ظلامة خير البريّة في العالمين.
اتّجه الأب والأمّ وابنتهما تلقاء النافذة الفولاذية، فشقّوا طريقهم بين الجموع المحتشدة بعسر.. حتّى بلغوا قريباً من النافذة.
أكرم كانت تحسّ أن هذه الليلة ليست كالليالي. كانت في حالة طيّبة.. حالة سماويّة عابقة. وشعرت أنّ عقدة حاجتها قد انحلّت، وتفضّل عليها الإمام بالرأفة والخلاص.
جلست الأمّ منحنية وهي تحتضن صغيرتها.. وسرحت بالأفكار. خطرت في ذاكرتها حادثة يوم أمس حين تمزّق وريد صغيرتها العزيزة لمّا أرادوا زَرقَ الإبرة. ازرقّت شفتا الأمّ وجفّ فمها، وكان يغطّي جسمَها عرق بارد. وعندها سترت الأمّ وجهها بكفّيها وانتحبت باكية. إنّ طائر قلبها المضطرب لا يكفّ عن الخفقان ما دامت ابنتها لم تَحظَ بالعافية. تذكّرت فاطمة هذا فهملت مدامعها.. غير أنّ برعم أمل كان يتفتح في قلبها مع كلّ قطرة تنحدر من العينين. وانبعث نسيم طريّ مُحبَّب يهبّ في داخلها ماسحاً عن قلبها ما تكدّس عليه من غبار الأسى والحزن.
إنّ مرض أكرم كان عاصفة غَضْبى تكاد تقوّض قلعة أحلام فاطمة وعبّاس. أمّا الرجل فقد اشتدّ به ضيق صدره وقذف به إلى الماضي.. يوم كانت أكرم تحوم حوله كفراشة زاهية مقبّلةً محيّاه. ارتسمت على شفتيه ابتسامة باردة، ومن عمق وجوده هتف:
ـ يا عليّ بن موسى الرضا.. لا تردّنا عن بابك خائبين.
وغلب عليه حزن صدره، فجرت دموعه ساخنة على الخدّ.. في حين كان بصره مشدوداً إلى المرضى المكروبين من حوله: أحدهم مصاب بداء السرطان العُضال. والآخر طفل مشلول مستلقٍ إلى جوار أبيه، وما يفتأ أبوه يداعبه ويناغيه. في ناحية أخرى كانت أمّ تدلك رِجلَي ولدها، لعلّها تعيد إليهما رمق الحياة. كلّهم جاءوا إلى محضر حجّة الله ثامن أئمّة الهدى يسكبون الدموع ابتغاءً للطهر والصفاء، ولينالوا مرادهم على يد خير عبيد الله.
في تلك الأثناء انسربت أكرم في هدأةٍ حالمة إلى غفوة نوم دُهش أبَواها لهدوئها فيها. كانا عاكفين على الضراعة والمناجاة. وكان صوت القرآن العذب يملأ المكان بمعنوية مرفرفة شفّافة. كان المقرئ يرتّل آيات من سورة الرحمان. وكان صوت بكاء المرأة يتعالى لحظةً بعد لحظة. قال الرجل:
ـ أيّها... الـ.. إمام.. الـ.. رضا!
واحتُبِس صوتُه في حنجرته، فلم يستطع أن ينطق بحرف!
* * *
أفاقت أكرم من غفوتها صائحةً بلهفة:
ـ السيّد الذي يرتدي البياض.. أين ذهب ؟!
امتزجت نظرات عبّاس المندهشة بنظرات فاطمة الحَيْرى. سأل الأب:
ـ أيّ سيّد يا ابنتي ؟!
قالت أكرم بنبرة مرتجفة:
ـ السيّد الذي جاء وقال: « لماذا أنتِ مهمومة يا ابنتي » ؟ قلت: رِجلي توجعني. ومسح بيده على خاصرتي وقال: « اذهبي فقد شُفيتِ ».. ألَم تَرَوه أنتم ؟!
فطنت الأمّ إلى أنّ عقدة الحاجة قد انحلّت. قالت:
ـ عبّاس! انظر.. انظر! الحبل محلول من يد أكرم!
تناول الأب طرف الحبل وعقده على معصم الطفلة عدّة مرّات. وحرّكت أكرم يدها حركة خفيفة.. فانساب الحبل من معصمها ووقع في حضنها!
إنّ الغمّ المُمِضّ الذي سلبهما الراحة والاستقرار عدّة أشهر قد انزاح عن كاهليهما في لحظة رضويّة مقدّسة، وبدأت تنعش حياتهما نسمات المسرّة والهناء. لقد انعتقت أكرم الصغيرة من ويلات دائها التي كانت تحاصرها كنبتة مصفرّة تكاد تقتلعها الريح العاتية إلى الأبد، وبدأ محيّاها يشرق وأساريرها تنبسط بابتسامة رائقة فازت بها هِبَةً من ألطاف غيب الرضا صلوات الله عليه.
وشهد الزائرون لحظات الاستجابة الرضوية النفيسة، فماجت قلوبهم بالوجد والشوق والأمل، وتطلّعت ضمائرهم إلى الفوز بحياة أخرى رغيدة هي خير ممّا يجمعون.. حياة مغسولة بنور الرضا عليه السّلام، ومكتحلة عيونُها القريرة بمودّة شمس الشموس وأنيس النفوس.
(ترجمة وإعداد إبراهيم رفاعة، من مجلة الحرم، ص 49 ـ 50، العدد 49 ـ 50)