بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْسَّلامِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الْلَّهِ وَبَرَكَاتَةَ
الدور التربوي للدعاء في حركة الإصلاح
ما أن انتهت معركة كربلاء حتی بدأ الإمام زین العابدین (ع) یعد العدّة لإعادة صیاغة الأمة ، التي ترهلت و فقدت فعالیتها و دورها ، حتی وصل إلی سدة قیادتها رجل مثل یزید ، فاسق فاجر قاتل للنفس المحترمة ، دون أدنی ردة فعل من العناصر الفاعلة فیها.
دور الدعاء :
حرص الإمام الحسین (ع) من خلال ثورته و شعاراتها علی استنهاض الامة من أجل تغییر الواقع الفاسد، حیث أوضح ان هدفه هو طلب الاصلاح في أمة جده، معلناً استعداده للتضحیة في سبیل هذا الهدف السامي و في سبیل تحقیق أهداف ثورته.
و قد تنكر الكثیر من أفراد الأمة في ذلك الوقت للإمام (ع) و تخاذلوا عن نصرته ، بل انطلقوا لیحاربوه في جیش یزید ، حرصاً علی مكتسباتهم و مصالحهم، متخلین عن واجبهم الدیني و الأخلاقي ، بسبب فسادهم و ارتباطهم بالدنیا علی حساب دینهم و رسالتهم ، مما شكل حالة سلبیة في واقع الأمة.
وقد واصل الإمام زین العابدین مسیرة كربلاء و حرص علی متابعة خط الثورة الحسینیة رغم الضغوط التي واجهته، مستخدماً أسلوب الدعاء من أجل حفظ حركة الإصلاح ، و من اجل إعادة ربط الامة بالمفاهیم الاسلامیة الاصیلة ، حیث انتهج برنامجاً تربویاً و روحیاً ، من أجل أن یعزز ارتباطها بالله تعالی لیكون هو المنطلق و الهدف و الغایة.
لأجل ذلك كانت حركة الدعاء التي تمتد في كل واقع الأمة و لا تقف عند حدود طلب الحاجات الدنیویة من الله ، بل تدخل إلی كل تفاصیل هذا الواقع. حیث یمتد ذكر الله تعالی في الصباح و المساء ، و عندما تعرض للإنسان ملمّة و بلیّة و عند طلب الحوائج من الله ، و إذا اعتدي علیه، و عند البلاء و عند الاعتذار من تبعات العبادة ، و في دفع كید الاعداء و عند الشعور بالمسؤولیة تجاه الوالیدن و الأبناء و الجیران، لأن الله عندما یكون حاضراً في نفس الإنسان و الحیاة، فلن یخضع لأحد غیره ، و عند ما یستشعر هذا الإنسان رقابه خالقه، فلن یبیع مواقفه، و سیكون شامخاً... و عندما یحب الإنسان الله وحده فسینعكس هذا الحب حباً لرسالته، و غیرةً علیها، وحباً للقیم التي دعت لتحقیقها، وحباً للناس و قضایاهم و حاجاتهم و أهدافهم و مستقبلهم ، باعتبار أن الخلق كلهم عیال الله و أحبهم إلی الله أنفعهم لعیاله.
و لذلك توجه الإمام زین العابدین (ع) لتربیة الأمة من خلال الدعاء ، حتی تعرف الله حق معرفته، لتحبه و تعبده حق عبادته و تخلص له...
الإرتباط بالله :
و لذلك نراه یتوجه الی الله تعالی في دعاء السحر قائلا: " الحمدلله الذي أدعوه و لا أدعو غیره، و لو دعوت غیره لم یستجب لي دعائي، و الحمدلله الذي أرجوه و لا أرجو غیره، و لو رجوت غیره لأخلف رجائي».
ثم نراه یتوجه إلی الله معلناً الحب الخالص له ، و مؤكداً التوجه إلی أحد إلا من خلاله، و بعد إحراز مرضاته حیث یقول: " ... فكم قد رأیت یا إلهي من أناس طلبوا العزّ بغیرك فذلّوا ، و راموا الثّروة من سواك فافتقروا، و حاولوا الارتفاع فاتّضعوا... فأنت یا مولاي دون كلّ مسؤول موضع مسألتي ، و دون كل مطلوب إلیه وليّ حاجتي".
و یبین سبب ابتعاده عن الارتباط بغیر الله بقوله: "... و من سواك مرحوم في عمره ، مغلوب علی أمره ، مقهور علی شأنه".
ثم یؤكد أنه لا ینبغي طلب الحاجات إلا من الله تعالی لأنه مصدر النعم، « و ما بكم من نعمة فمن الله» ولذا من الخطأ الاعتقاد أن تلبیه الحاجات سیكون بفضل تدخل الزعماء و الحكام، لأن هؤلاء یعودون بأمورهم إلی الله و قد أوضح هذا الموقف في دعائه ، بصورة تصویریة رائعة: " اللهمّ ولي إلیك حاجة قد قصر عنها جهدي، و تقطّعت دونها حیلي، و سوّلت لي نفسي رفعها إلی من یرفع حوائجه إلیك، و لا یستغني في طلباته عنك، وهي زلّة من زلل الخاطئین ، وعثرة من عثرات المذنبین ، ثم انتهبت بتذكیرك لي من غفلتي ، و نهضت بتوفیقك من زلّتي ... وقلت : سبحان ربي كیف یسأل محتاج محتاجاً ، و أنّي یرغب معدم إلی معدم".
و لذا تراه عندما یعسر علیه الرزق یتوجه إلی الله واثقاً به ، مندداً بالذین یطلبون رزقهم عند الآخرین ، فیتنازلون عن مبادئهم و قیمهم لحساب الوصول إلی مال أو موقع ، یقول(ع): " الّهمّ إنّك ابتلیتنا في أرزاقنا بسوء الظنّ ، حتّی التمسنا أرزاقك مند المرزوقین . اللهم وهب لنا یقیناً صادقاً تكفینا به من مؤونة الطلب، و ألهمنا ثقةً خالصةً تعفینا بها من شدّة النّصب".
و یتوجه الإمام (ع) إلی الله عزّوجل في الشدائد حیث یشعر بأن الله وحده الحامي و الحاضن و المعین عند الشدائد و الملمّات ، فلا یحتاج معه إلی أحد من خلقه ، فیخاطبه قائلاً: " أنت المدعوّ للمهمّات ،و أنت المفزع في الملمّات ، لا یندفع منها إلا ما دفعت ، و لا ینكشف منها إلا ما كشفت".
مشروع عملي :
وقد حرص الإمام زین العابدین (ع) علی التأكید أن العلاقة بالله ینبغي أن تتحول إلی مشروع عملي ینعكس علی الحیاة الخاصة و العامة في مختلف جوانبها الاجتماعیة و السیاسیة و الاقتصادیة ، و لهذا عندما كان یسأل الله حبه كان یدعوه أن یتحول هذا الحب إلی مسار عملي و لهذا كان یدعو : " اللهم إني أسألك حبك و حبّ من یحبك و حبّ كل عمل یوصلني إلی قربك... و أن تجعل حبي إیاك قائدا إلی رضوانك و شوقي إلیك ذائداً عن عصیانك".
و كان علیه السلام یبتدأ یومه بالتوجه إلی الله ، طالباً منه العون علی كل المسؤولیات في الحیاة ، فلا تقتصر في ذلك علی المسؤولیات العبادیة ـ علی أهمیة دورهاـ بل یؤكد المسؤولیات الرسالیة العمة تجاه الحیاة بكل عناوینها: " اللهمّ و وفّقنا في یومنا هذا ، و لیلتنا هذه ، و في جمیع أیّامنا ، لاستعمال الخیر و هجران الشر ، و شكر النعم ، و اتّباع السنن ،و مجانبة البدع ، و الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر ، و حیاطة الإسلام ، و انتقاص الباطل و إذلاله ، و نصرة الحقّ و إعزازه ، و إرشاد الضال و معاونة الضعیف و إدراك اللّیف".
و لذلك كان یعلّمنا ضرورة التوبة إلی الله و طلب المغفرة منه عندما نقصّر في القیام بمسؤولیاتنا العامة ، و الاستغفار عندما لا نقوم بواجباتنا العبادیة، في اسلوب تربوي ممیز، حیث یدعو(ع) : "اللهمّ إنّي اعتذر إلیك من مظلوم ظلم بحضرتي فلم أنصره ، و من معروف أسدي أليّ فلم أشكره".
كما أكد الإمام (ع) علی أن العلاقة بالله تجعل الإنسان یتحرك في اتجاه الأحسن و الاكمل و الأفضل ، كما دعا إلی أن نجعل لكل یوما برنامجا خاصا. لهذا كان له برنامج یومي علی المستوی الروحي و العملي ، حیث كان یدعو إلیه لیوّفقه لتنفیذه، لیكون العمر كله في رحاب الله و في ظل طاعته.
و بذلك أراد الإمام (ع) أن تنتج أمة ترتبط بالله حباً و شكراً و تقدیراً ،كما ترتبط به اخلاقاً و منهجاً و سلوكاً ، حتی یزیل المفاهیم التي كانت تعزل العلاقة بالله عن واقع الحیاة عندما تكون القلوب فقط مع الله و أولیائه، فیما تشهر السیوف علیهم و من هنا مثلثِ " الصحیفة السجادیة " كنزاً ثقافیاً للأمة علی المستوی الروحي و الحركي ، و علی مستوی فهم الواقع و مواجهة سلبیاته. فمن خلال هذه العلاقة بالله تزول كل الأسباب التي أدت إلی سیطرة الظالمین و المفسدین علی واقع الأمة ، و بالتالي إلی محنة عاشوراء و ما جری فیها.
السيد علي فضل الله