اللهم صل على محمد وال محمد الطيبين الطاهرين
نواصل معكم بقيمة المراة عند الرسول الاكرم محمد صلى الله عليه واله وسلم
وهكذا تستمر آمنة بنت وهب سارحة مع أفكارها وأحلامها، وتستمر أفكارها وأحلامها معها أيضاً، عنيفة بها مرة، ورفيقة بها أخرى حتى تنتزعها من انطلاقتها الحلمية.
تلك أصوات غريبة وصلت إلى سمعها من صحن الدار، وحركة غير طبيعية أخذت تدب في أرجاء البيت فتهتز لهذه الظاهرة الجديدة لحظة، ويخامرها قليل من أمل وتساورها لمحة من رجاء.
ماذا لو كان الحبيب الغائب قد عاد هو ومن صحبه من الإخوان، وماذا لو كان ما تسمع رجع صدى قدومهم على غير ميعاد.
ماذا لو كان عبد الله قد اختصر المدة ورجع إلى أهله وإليها، وإلى جنينها الحبيب، ثمّ تنهض متعجلة وهي بين اليأس والرجاء وتذهب متلهفة الخطى وقلبها يكاد يسبقها في المسير، وتذهب لتسأل عن الخبر اليقين، وتلقى سؤالها بصوت كأنه حشرجة روح...
ماذا هل قدم عبد الله!؟..
فهي تشعر أن هناك واردين جُدُداً، وهي تحس أن الدار ليست على هدوئها الاعتيادي، ولكنها لا ترى عبد الله. وكانت تتوقع أن تبصر به قبل السؤال، ولكنها حينما لم تر عبد الله، وحينما وثقت من قدوم المسافرين الذين صحبوا زوجها في السفر انبعثت آهاتها كلمات سألت فيها عن عبد الله، وتسمع الجواب وهي لا تكاد تفهم منه إلاّ القليل فقد أذهلتها الصدمة، وشلت حواسها المحنة التي شعرت بها قبل أن تسمعها وعرفتها بدون أن تخبر بواقعها وكان الجواب.. لا لم يجئ عبد الله ولكنهم الآخرون، فتعود تسأل وهي لا تعلم أنها تسأل وتستفهم وهي في غنىً عن الاستفهام. إذن فأين عبد الله وما الذي قعد به عن متابعتهم في السير... فيقال لها: أنه مريض وقد أفاء إلى قوم في منتصف الطريق يستضيفونه حتى يقوى على السفر وهي تسمع الجواب وتفهم منه غير الذي قيل فتنطلق روحها من فمها إلى كلمات مرة وتقول:
آه من لي بعبد الله ومن لوليدي بأبيه. وهكذا. تتلاشى أحلام آمنة وينهار صرح امانيها فنراها وقد تسربلت بأبراد العزاء بعد أن انطفأت شعلة السعاة المتوهجة في صباها الريان فهي رابضة بعيداً عن اللدات والرفيقات..
منصرفة عن الدنيا وما فيها من مباهج.. عاكفة على آلامها الممضة، منطوية تحت سماء الحزن القاتم وفي إطار من الألم المرير.. فهي لا تحيى إلاّ للذكرى ولا تعيش إلاّ على حطام السعادة المفقودة بعد أن افترقت عن رفيق دربها السعيد، وأصبحت وهي الزهرة الناظرة رهينة الثكل الممض والحزن القاتل. فآمنة كادت بعد فجيعتها بعبد الله أن تزهد في الحياة فما عادت تشعر للحياة معنى وهي خلو من عبد الله، وعبد الله كان لها الحياة الروحية بكل معاني الحياة، ولكن بارقة من أمل وشعور لا إرادي أخذ يشدها للحياة التي أنكرتها، وأخذ يشعرها بوجودها حية مع الأحياء، ويذكرها أنها لم تمت يوم مات عبد الله، فقد أخذت تشعر أن عليها تجاه عبد الله واجباً يجب عليها أن تؤديه، وأن في أحشائها وديعة لفقيدها الغالي، لا يمكن لها بأي حال من الأحوال أن تنساها، أو تتناساها. وأحست أن رسالتها بالنسبة لعبد الله لم تنته بعد، فما دام طفله معها فهي مسؤولة أن تعيش، ولهذا فقد أقامت على لوعة مريعة وألم ليس فوقه ألم، وما أكثر ما كانت تسترجع ذكرى أيامها مع الزوج الغالي وأيامها قبل أن يدخل حياتها وتدخل حياته، وكيف أنه أختارها هي دون سواها مع كثرة الإغراء الذي أحيط به من فتيات قريش، ولهذا فما أكثر ما حُسدت عليه وما أكثر ما اعتزت به وفرحت فلم يكن عبد الله بن عبد المطلب بالعريس الهين، فهو غصن بني هاشم، ومنار فتيان قريش فماذا لو لم يفرق الموت بينهما، وماذا لو تركهما يتذوقان الهناء، ولو إلى مدة قصيرة، وماذا لو أمهله الموت حتى يرى وليده العزيز، وماذا لو رحم الموت هذا الجنين الذي سوف يستقبل الدنيا أو تستقبله الدنيا، وهو يتيم وحيد، وهي لا تزال تذكر ساعة الوداع ولا تنسى وصايا عبد الله لها أن تحافظ على جنينها ما وسعها الحفاظ، ولكن أين هو الآن وقد آن للعزيز المنتظر أن تبصر عينه نور الحياة، وفعلاً فقد استقبلت الدنيا محمد بن عبد الله وهو يتيم يكفله جده وتحضنه أمه الثاكلة آمنة بنت وهب، وهي المرأة الأولى في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ثمّ تمضي الأيام تتبعها الأسابيع والشهور وآمنة عاكفة على وليدها الغالي تفديه بالنفس والنفيس حتى بلغ السن الذي يتحتم به عليها أن تدفع به إلى المراضع؛ فقد كان المفهوم السائد في ذلك العصر أن الطفل الذي ينمو في البادية ويترعرع في جوها الطلق يكون أشد عوداً، وأقوى عزيمة من الطفل الحضري، وعلى هذه القاعدة المتبعة دفعت به أمه إلى حليمة السعدية، وهكذا أصبحت حليمة المرأة الثانية في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وقد رجعت حليمة وزوجها الى أحياء بني سعد، وهي تحمل معها طفلاً يتيماً لم تتمكن أن تحصل على غيره في الوقت الذي حصلت فيه باقي المرضعات على أطفال أغنياء استلمتهم من أيدي أبويهم محملين بالزاد والمال الوفير...
ومنذ أن ضمت ساعداها هذا اليتيم أحست أنه أصبح لها كل شيء وأحست أنها تود جادةً أن تصبح له كل شيء أيضاً، وما أن سافرت به حتى بدأت تتعشقه وتفنى فيه ولم يستقر بها المقام إلاّ وهي تشعر بأنها تحمل معها كنزاً ثميناً دونه الكنوز، وعرفت بدافع من أعماقها بأنها هي الرابحة الحقيقية دون سواها من المرضعات؛ وقد بدأت تلوح لها بوادر تؤيد عندها هذا الشعور فقد عمت البركة جميع الحي وتزايد الخير بالزاد والمال، وقد أفضت بما تراه لزوجها ونبهته إلى بوادر الخير التي أخذت تلوح لهم.
فقال لها: عسى أن يكون لهذا الغلام شأن وأوصاها بالعناية به والحرص عليه؛ ولكن حليمة لم تكن تحتاج الى أي توصية فقد أزدحمت في قلبها جميع عواطف الأمومة تجاه هذا الطفل الصغير، وتفجر في فؤادها ينبوع من الحنان لا يمكن له أن ينفد أبداً. وقد كانت تقدمه على أولادها، وتحله في أعلى منزلة من قلبها ورعايتها وبرها وكرمها. وقد اختلقت كثيراً من المعاذير والحجج لتتمكن من استبقائه عندها أكبر مدة ممكنة فما كانت تتمكن أن تنفصل عنه أو أن يفارق أحضانها ويبعد عن ساعديها، فقد كان بالنسبة لها ينبوعاً للخير والبركة والسعادة والهناء.
وكذلك كان محمد بن عبد الله أيضاً فهو يحبها ويركن اليها ويحترمها صغيراً وكبيراً، ويحفظ لها جميلها بكل احترام، وقد عاشرها سعيداً وفارقها غير قالٍ، ولا عاتب، وقد بقي يذكرها بالخير والاعزاز حتى بعد النبوة، فقد كان صلوات الله عليه يناديها بيا أمي، وإذا أقبلت اليه أفسح لها مجلساً إلى جواره، وقد يتفق أن يهوي على صدرها فيقبله وهو أكثر ما يكون براً بها وحدباً عليها..[/b]