حب الدنيا مغروسٌ في قلب ابن آدم، وكلَّما تقدَّم به العمر، كبر هذا الحبُّ في قلبه، وظنَّ أن الدنيا دارُ اللذات والشهوات والرغبات، وأن الموتَ يقطعُهُ عنها.
وحب البقاء أيضاً فطريٌ في الإنسان، لذا يكره الزوال، والفناء، ويظنُّ أن الموت فناء... أما إيمانه العقلي بأن الدنيا دار ممر، لم يصل إلى درجة الاطمئنان القلبي الذي طلبه إبراهيم الخليل الرَّحمن عليه السلام من الحق المتعال، فأنعم به عليه[1].
وعند الوصول إلى هذه المرتبة، يشتاق للتخلص من هذا السجن المظلم الثقيل، كما جاء في كثير من كلام الأولياء.
يقول الإمام علي عليه السلام "والله لابنُ أبي طالب آنسُ بالموتِ من الطِّفْل بثدي أُمِّه".
فمن رأى حقيقة الدنيا، كما الأولياء، لا يُؤثرُ على مجاورة الحقِّ شيئاً أبداً... ويكون الوقوع في عالم الطبيعة بذاته تلذذ طبيعي وقسري... فكان بذلك من باب الحجاب، وفي ذلك يقول رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم "ليُرانُ على قلبي وإني لأستغفر الله في كل يومٍ سبعين مرة".
تأثيرُ الدنيا في القلب
إعلم أن أيَّ أمرٍ من أُمور الدنيا، يترك أثراً في القلب، وكلما ازداد التلذذ بالدنيا، اشتد تعلُّقُ القلب بِها، إلى أن يتجهَ كُلِّياً نحوها، وهذا يبعثُ على كثير من المفاسد.
ومن أكبر مفاسد الدنيا، كما كان يقول شيخنا العارف، روحي فداه، أنها إذا انطبع حُبُّها على القلب، وانكشف عن الموت أن الله تعالى يفصل بينه وبين محبوبه، غادر الدنيا ساخطاً على وليِّ نعمته، والعياذ بالله... وكفى بهذا القول القاصم للظهر أن يوقظ الإنسانَ من غفلته.
ويقول أيضاً، دام ظلُّه، نقلاً عن أبيه المعظَّم، إنه كان في أواخر عمره خائفاً بسبب محبَّته لأحد أولاده، لكنَّه بعد ترويضه لنفسه اطمأن، وانتقل إلى دار السرور مسروراً، رضوان الله عليه.
ورد عن أبي عبد الله عليه السلام: "مَثَلُ الدنيا كمثل ماء البحر، كُلَّما شرب منه العطشان ازداد عطشاً حتى يقتلَه".
حبُّ الدنيا أصلُ البلايا والسيئات الباطنية والظاهرية، ونُقل عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قولُه "إنَّ الدرهم والدينار أهلكا مَنْ كان قبلَكُم، وهما مُهْلكاكُم".
وعلى فرض أن الإنسان لم يرتكب المعاصي، وهذا مستحيل، فإنَّ التعلق بالدنيا نفسَه معصيةٌ، وكُلَّما كان التعلُّقُ أقل، كان البرزخ وقبر الإنسان أكثر نوراً وأوسع، ومكثه فيه أقصر... كما لأولياء الله فلا يزيد عن ثلاثة أيام، كما ورد في الروايات، وما هذا إلاَّ لأجل التعلُّق الطبيعي للأولياء.
ومن مفاسد حبِّ الدنيا، خوفُ الإنسان من الموت، بسبب تعلُّقِه بها، وهذا مذمومٌ جداً.
يقول السيد العظيم الشأن الداماد، كرَّم الله وجهه، في كتابه "القبسات" وهو من الكتب النادرة "لا يُخيفنَّك الموتُ، فإنَّ مرارَته في خوفه".
ومن مفاسده الكبيرة منعُ الإنسان من العبادات والمناسك، وهذا يوهنُ الروح، مع أن المفترض بالعبادات تقويةُ الروح على الجسم وقواهُ الطبيعية بإرادة قوية فيعملُ الإنسانُ كما يمتنع عمَّا يشاء دون مشقة أو عناء... بل في بعض المراحل العالية يُصبحُ كملائكة الله تعالى الذين لا يعصون الله بما أمرهم، ويفعلون ما يُؤمرون.
ومَنْ ليس له عزمٌ قويٌ وإرادةٌ نافذة، لا ينال الجنَّةَ ومقامَها الرفيع، فالدنيا مزرعةُ الآخرة، ومادةٌ لكل نعم الجنة، ونقم النار.
واعلم أيها العزيز، أن لكل عبادة من العبادات أثرٌ يحصلُ في النفس، ممَّا يُقوِّي الإرادة شيئاً فشيئاً ويصل بها إلى حدِّ الكمال "أفضلُ الأعمالِ أحمُزها" فتركُ النوم في الشتاء البارد للعبادة، يُقوِّي الروحَ لتغلبَ الجسمَ... وإذا كان أولُّ الأمر بمشقة وعناء، فإنَّه يُصبحُ بِراحة وهناء، مع التكرار، لذا نرى أهلَ العبادة يقومون بالأعمال دون تكلُّف بل يلتذون بها أكثرَ ممَّا نلتذ نحن بمشتهيات الدنيا، والخير عادة.
وكما تقوى الإرادةُ بالعبادات والمناسك وترك الرغبات، كذلك في المعاصي يضعف عزمُ الإنسانِ وإرادتُه.
من كتاب : الأربعون حديثاً
الى متى يا مهدينا الى متى هذا الغياب عجل على ظهورك إذا كنا مع الحق فلا نبالي
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أحسنتِ ع الطرح القيم اسال الله العلي القدير ان يوفقك وسهل امورك
تحياتي لكِ
مسك النبي الهادي