و قيل: من انس بالله، و ملك الحق قلبه، و بلغ مقام الرضا، و صار مشاهدا لجمال الحق: لم يبق له الخوف، بل يتبدل خوفه بالامن، كما يدل عليه قوله سبحانه:
«اولئك لهم الامن و هم مهتدون» (17)
اذ لا يبقى له التفات الى المستقبل، و لا كراهية من مكروه، و لا رغبة الى محبوب، فلا يبقى له خوف و لا رجاء، بل صار حاله اعلى منهما. نعم، لا يخلو عن الخشية-اي الرهبة من الله و من عظمته و هيبته-و اذا صار متجليا بنظر الوحدة لم يبق فيه اثر من الخشية ايضا، لانه من لوازم التكثر، و قد زال. و لذا قيل: «الخوف حجاب بين الله و بين العبد» . و قيل ايضا:
«اذا ظهر الحق على السرائر لا يبقى فيها محل لخوف و لا رجاء» . و قيل ايضا: «المحب اذا شغل قلبه في مشاهدة المحبوب بخوف الفراق كان ذلك نقصا في دوام الشهود الذي هو غاية المقامات» .
و انتخبير بان هذه الاقوال مما لا التفات لنا اليها، فلنرجع الى ما كنا بصدده من بيان فضيلة الخوف، فنقول: الآيات و الاخبار الدالة عليه اكثر من ان تحصى، و قد جمع الله للخائفين العلم و الهدى و الرحمة و الرضوان، و هي مجامع مقامات اهل الجنان، فقال:
«انما يخشى الله من عباده العلماء» (18) . و قال: «هدىو رحمة للذين هم لربهم يرهبون» (19) . و قال: «رضيالله عنهم و رضوا عنه ذلك لمن خشى ربه» (20) .
و كثير من الايات مصرحة بكون الخوف من لوازم الايمان، كقوله تعالى:
«انما المؤمنون الذين اذا ذكر الله وجلت قلوبهم» (21)
و قوله: «و خافون ان كنتم مؤمنين» (22)
و مدح الخائفين بالتذكر في قوله:
«سيذكر من يخشى» (23)
و وعدهم الجنة و جنتين، بقوله:
«و اما من خاف مقام ربه و نهى النفس عن الهوى فان الجنة هي الماوى» (24) . و قوله: «و لمن خاف مقامربه جنتان» (25) .
و في الخبر القدسي: «و عزتي لا اجمع على عبدي خوفين و لا اجمع له امنين، فاذا امننى في الدنيا اخفته يوم القيامة، و اذا خافني في الدنيا امنته يوم القيامة» . و قال رسول الله-صلى الله عليه و آله و سلم- «راس الحكمة مخافة الله» ، و قال-صلى الله عليه و آله و سلم-: «من خاف الله اخاف الله منه كل شيء، و من لم يخف الله اخافه الله من كل شيء» (26) ، و قال لابن مسعود: «ان اردت ان تلقاني فاكثر من الخوف بعدي» ، و قال-صلى الله عليه و آله و سلم-: «اتمكم عقلا اشدكم الله خوفا» .
و عن ليثبن ابي سليم قال: «سمعت رجلا من الانصار يقول: بينما رسول الله مستظل بظل شجرة في يوم شديد الحر، اذ جاء رجل فنزع ثيابه، ثم جعل يتمرغ في الرمضاء، يكوى ظهره مرة، و بطنه مرة، و جبهته مرة، و يقول: يا نفس ذوقي، فما عند الله اعظم مما نعتبك. و رسول الله ينظر اليه ما يصنع. ثم ان الرجل لبس ثيابه، ثم اقبل، فاومى اليه النبي-صلى الله عليه و آله و سلم-بيده و دعاه، فقال له: يا عبد الله! رايتك صنعتشيئا ما رايت احدا من الناس صنعه، فما حملك على ما صنعت؟ فقال الرجل:
حملنى على ذلك مخافة الله، فقلت لنفسي: يا نفس ذوقي فما عند الله اعظم مما صنعتبك. فقال النبي-صلى الله عليه و آله و سلم-: لقد خفت ربك حق مخافته، و ان ربك ليباهي بك اهل السماء، ثم قال لاصحابه: يا معشر من حضر! ادنوا من صاحبكم حتى يدعو لكم. فدنوا منه، فدعا لهم، و قال اللهم اجمع امرنا على الهدى و اجعل التقوى زادنا، و الجنة مآبنا» .
و قال-صلى الله عليه و آله و سلم-: «ما من مؤمن يخرج من عينيه دمعة، و ان كانت مثل راس الذباب، من خشية الله، ثم يصيب شيئا من حر وجهه، الا حرمه الله على النار» ، و قال: «اذا اقشعر قلب المؤمن من خشية الله تحاتت عنه خطاياه كما يتحات من الشجر ورقها» ، و قال: «لا يلج النار احد بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع» . و قال سيد الساجدين (ع)
في بعض ادعيته: «سبحانك! عجبا لمن عرفك كيف لا يخافك» . و قال الباقر عليه السلام: «صلى امير المؤمنين عليه السلام بالناس الصبح بالعراق، فلما انصرف وعظهم، فبكى و ابكاهم من خوف الله، ثم قال: اما و الله لقد عهدت اقواما على عهد خليلي رسول الله-صلى الله عليه و آله و سلم-: و انهم ليصبحون و يمسون شعثا غبرا خمصا بين اعينهم كركب البعير يبيتون لربهم سجدا و قياما، يراوحون بين اقدامهم و جباههم، يناجون ربهم في فكاك رقابهم من النار و الله لقد رايتهم مع هذا و هم خائفون مشفقون» ، و في رواية اخرى: «و كان زفير النار في آذانهم، اذا ذكر الله عندهم مادوا كما تميد الشجر، كانما القوم باتوا غافلين» ، ثم قال عليه السلام: «فما رئي عليه السلام بعد ذلك ضاحكا حتى قبض» . و قال الصادق عليه السلام: «من عرف الله خاف الله و من خاف الله سخت نفسه عن الدنيا» . و قال عليه السلام: «ان من العبادة شدة الخوف من الله تعالى يقول: «انما يخشى الله من عباده العلماء» . و قال:
«فلا تخشوا الناس و اخشون» (27) . قال: «و من يتق الله يجعل له مخرجا» (28) .
و قال: «ان حب الشرف و الذكر لا يكونان في قلب الخائف الراهب»
و قال عليه السلام: «المؤمن بين مخافتين: ذنب قد مضى ما يدري ما صنع الله فيه، و عمر قد بقى لا يدرى ما يكتسب فيه من المهالك، فهو لا يصبح الا خائفا و لا يصلحه الا الخوف» ، و قال (ع) : «خف الله كانك تراه، و ان كنت لا تراه فانه يراك، و ان كنت ترى انه لا يراك، فقد كفرت، و ان كنت تعلم انه يراك ثم برزت له بالمعصية فقد جعلته من اهون الناظرين اليك» ، و قال (ع)
«لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون خائفا راجيا، و لا يكون خائفا راجيا حتى يكون عاملا لما يخاف و يرجو» ، و قال (ع) : «مما حفظ من خطب النبي -صلى الله عليه و آله و سلم-انه قال: ايها الناس! ان لكم معالم فانتهوا الى معالمكم، و ان لكم نهاية فانتهوا الى نهايتكم، الا ان المؤمن يعمل بين مخافتين بين اجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه و بين اجل قد بقى لا يدرى ما الله قاض فيه، فلياخذ العبد المؤمن من نفسه لنفسه و من دنياه لآخرته، و من الشبيبة قبل الكبر، و في الحياة قبل الممات، فو الذى نفس محمد بيده ما بعد الدنيا من مستعتب و ما بعدها من دار الا الجنة او النار» .
ثم الاخبار الواردة في فضل العلم و التقوى و الورع و البكاء و الرجاء تدل على فضل الخوف، لان جملة ذلك متعلقة به تعلق السبب او تعلق المسبب، اذ العلم سبب الخوف، و التقوى و الورع يحصلان منه و يترتبان عليه-كما ظهر مما سبق-و البكاء ثمرته و لازمه، و الرجاء يلازمه و يصاحبه اذ كل من رجا محبوبا فلا بد ان يخاف فوته، اذ لو لم يخف فوته لم يحبه فلا ينفك احدهما عن الآخر، و ان جاز غلبة احدهما على الآخر، اذ من شرطهما تعلقهما بالمشكوك، لان المعلوم لا يرجى و لا يخاف، فالمحبوب المشكوك فيه تقدير وجوده يروح القلب و هو الرجاء، و تقدير عدمه يؤلمه و هو الخوف، و التقديران يتقابلان. نعم احد طرفي الشك قد يترجح بحضور بعض الاسباب، و يسمى ذلك ظنا، و مقابله و هما، فاذا ظن وجود المحبوب قوى الرجاء و ضعف الخوف بالاضافة اليه، و كذا بالعكس، و على كل حال فهما متلازمان، و لذلك قال الله سبحانه.
«و يدعوننا رغبا و رهبا» (29) . و قال: «يدعون ربهم خوفا و طمعا» (30) .
و قد ظهر ان ما يدل على فضل الخمسة يدل على فضيلته، و كذا ما ورد في ذم الامن من مكر الله يدل على فضيلته، لانه ضده، و ذم الشيء مدح لضده الذي ينفيه. و مما يدل على فضيلته ما ثبتبالتواتر من كثرة خوف الملائكة و الانبياء و ائمة الهدى-عليهم السلام-كخوف جبرائيل، و ميكائيل، و اسرافيل، و حملة العرش، و غيرهم من الملائكة المهيمين و المسلمين. و كخوف نبينا، و ابراهيم، و موسى، و عيسى، و داود، و يحيى. . . و غيرهم. و خوف امير المؤمنين و سيد الساجدين و سائر الائمة الطاهرين-عليهم السلام-و حكاية خوف كل منهم في كتب المحدثين مذكورة و في زبرهم مسطورة، فليرجع اليها من اراد، و من الله العصمة و السداد
المصدر/ جامع السعادات