المريضة المعافاة: سكينة الباي. العمر 14 سنة. من مدينة جرجان. الحالة المرضيّة: أعصاب، وتشنّج عصبيّ
كنتُ واثقة أنّ الإمام سَيمُنّ علَيّ.
السماء تُمطر بغزارة. أدركتُ هذا من صوت مياه الميازيب الشديدة المستمرّة. من المألوف أن تمطر بغزارة في مثل هذا الوقت في (مازَنْدَران). أحياناً يستمرّ المطر يومين متّصلين أو ثلاثة أيّام.
في كلَ سنة، في مثل هذا الموسم، كنت أفتح الباب المؤدّي إلى فِناء الدار، وأجلس تحت مظلّة الباب أتطلّع إلى المطر يهطل. كنت شغوفة بالمطر لا أمَلّ من التفرّج عليه حتّى لو استمرّ إلى الليل.
أمّا الآن.. فأين تلك الأيّام الجميلة المَرِحة ؟! كلّ شيء تغيّر، ولم أعُد أحبّ المطر كما في تلك الآيّام. صار المطر يأخذ بِخِناقي. أخاف من صوت المطر إذا ارتطم بسطح دارنا، وأنزعج من صراخ الميزاب. يضيق صدري ويأخذني الاضطراب، وكأنّي أكاد أغيب عن الوعي. أحسّ وجعاً في دماغي من أيّ صوت حتّى لو كان ضعيفاً. أعصابي مُرهَقة، وأودّ لو أصرخ بصوت مرتفع. لم أعُد أحبّ المطر. وعندما تطرق حبّاتُ المطر زجاج نافذة الغرفة أحسّ أن مسماراً يُدَّق في رأسي باستمرار. فجأة أفقد توازني ويعتريني التشنّج: يضطرب بدني بشدّة، ويتتابع من فمي الصُّراخ.
وعلى أثر صراخي.. تُهرَع إليّ أمّي من الغرفة الأخرى. تتسمّر عند عتبة الباب، وتأخذها الدهشة وهي ترى بدني النحيل على تلك الحال، فتخمش وجهها وتصيح بفزع. أمّا أنا.. فمطروحة على أرض الغرفة، ثمّ لا أراها ولا أسمع لها صوتاً.
* * *
المطر ينزل. ينزل هذه المرّة على مهل. وجذبني إليه صوت قطرات الميزاب. أمّي جالسة عند فراشي تتقاطر من عينيها الدموع. مسكينة أمّي! كم تقاسي وتتألم من أجلي! صار دأبها البكاء. تظنّ أن بكاءها دواء لمرضي الذي لا دواء له. يالَه من ظنٍّ بائس! إنّها تعذّب نفسها، وهذا يزيدني عذاباً فوق العذاب. آه.. ليتني أستطيع أن أحكي معها، ليتني أستطيع أن أُفهمها أنّ بكاءها لا ينفعني شيئاً غير مزيد من العذاب.
إنّي أتجرّع آلامي.. أمَا يكفيني هذا ؟!
وحين فتحتُ عيني ابتسمَتْ لي، ونهضتْ من مكانها. لقد تعوّدتُ على طريقتها، وصرت أحفظ حتّى الكلمات التي تتفوّه بها حين تُحضِر لي العصير:
ـ خذي يا بُنَيّتي. إشربي هذا العصير لينفتح قلبك وتتحسّني...
وعندما غابت أمّي وراء الباب وهي ذاهبة لتأتي بكأس العصير.. ارتفعت أصوات الميزاب، واشتدّ قَرْع المطر الذي يتساقط على السطح.. تماماً كما يرتفع صوت الراديو ويرتفع ويطنّ بقوّة في أُذُنَيّ.
ثَقُل جَفناي وانطبقا. وتمثّلتْ لي ـ من وراء الجفون ـ صورةُ أبي وهو يدخل من باب الغرفة: حول عنقه شال أخضر، وفي وجهه صَباحة وبهاء عجيب. نظرت إليه بدهشة، فجاء وجلس عند سريري. سلّمت عليه:
ـ السّلام عليك يا بابا، أين كنت كلّ هذه المدّة ؟! أنا في شوق إليك.
ضحك.. فأشرقَتْ في ضحكته شمس رائعة تبعث الدفء في روحي.
ـ عليك السّلام يا عزيزتي. أنا أيضاً مشتاق إليك يا بُنَيّتي. ذاب قلبي من أجل (سكينة) الجميلة الطول، هل أنت بخير يا بهجة قلب أبيها ؟
طوّقتُ عنقه بذراعي، وقبّلت وجهه:
ـ أنا بخير يا بابا، أنا بأحسن حال كما ترى. إذا جئتَ لتراني أشفى وأنسى كلّ الآلام.
لكنْ عندما تذهب...
انحنى أبي وقبّل جبيني:
ـ لن أذهب يا بابا. أظلّ عندك، بشرط أن تعاهديني على أن تكوني دائماً بخير.. أتعاهدينني ؟
ـ أُعاهدك. أعاهدك بشرط أن تقول لي من أين جئت بهذا الشال الأخضر.
يتلمّس شال عنقه ويقبّله:
ـ أقول لك. لمّا كنت راجعاً من الجبهة ذهبت إلى مشهد لزيارة الإمام الرضا. وهذا الشال هديّة من الإمام، جئت به إليك لشفاء آلامك. الإمام دعاكِ لزيارته، عليك أن تستعدّي لتذهبي إليه.
عندها.. نهضتُ من مكاني مسرورة، وصحتُ:
ـ أريد أن أروح إلى الزيارة، أريد أن أروح إلى مشهد أزور الإمام الرضا ليشفيني.
وسمعت أمّي صيحتي فدخلت إلى الغرفة مسرعة:
ـ ماذا جرى يا بُنيّتي ؟! هل رأيت حلماً ؟
تطلّعتُ إلى عينيها، وقلت:
ـ حلم جميل يا ماما، حلم مشهد، حلم بابا، حلم شفاء، حلم الإمام.. الإمام الرضا.
ضحكتْ أمّي بدموع الفرح. أحِبّ من أمّي دائماً هذا النوع من الضحك. هكذا تضحك إذا كانت محزونة ومسرورة في نفس الوقت. تضحك وتبكي في وقت واحد. وها هي الآن تضحك لي بعيون دامعة:
ـ آخذكِ يا ابنتي، آخذك إلى مشهد «دخيلةً» عند الإمام ليشفيك إن شاء الله.
* * *
مرّ يومان.. وأنا «دخيلة» عند الإمام. كلّي أمل أن الإمام سيأتيني. قطعتُ كل هذا الطريق يَحدوني الأمل. أنا واثقة أنّ الإمام سيمُنّ علَيّ.
في ليلة اليوم الثاني من حضوري في صحن الحرم الرضويّ.. كان الجوّ مكفهرّاً. الغيوم قد حجبت السماء، فلا يُرى من ورائها حتّى نجمة واحدة. ازدادت برودة الجوّ، وأحسست أنّي أرتجف من البرد الذي كأنّما كان يدخل في عظامي. رفعتْ أمّي غطاءً كان عليها وألقَتْه على كتفيّ. الرعد يزمجر.. وشقّ البرق سقف السماء الأسود. بدأ المطر ينثّ، ثمّ تحوّل إلى زخّات غزيرة، فسارعت أمّي تمسكني من يدي وتُدخلني معها إلى داخل الروضة.
أنعشني الدفء في الداخل، وأنا جالسة قرب الضريح. وقامت أمّي تصلّي (صلاة الحاجَة). كان في القرب منّي مصحف، فتناولته.. وفتحته. ظهرت سورة (الرحمن). وبدأتُ أقرأ.
ما كدتُ أصل إلى منتصف السورة حتّى شعرت بارتخاء يدبّ في بدني هو أشبه ما يكون بِنُعاس ما بعد الظهر في أيّام الصيف، ووجدتُني أنزلق إلى نوم أثقلَ جفنيّ. وضعت المصحف على (رَحلة القرآن)، وأسندت كتفي إلى الضريح.. ودخلت في إغفاءة هادئة.
ما زالت أصوات الحاضرين تدوّي في أُذنَيّ. أجفاني مُغلَقة، لكنّي كنت أرى الحاضرين. عَجَباً! لم أكن أعلم أنّي كنت نائمة أم يقَظى! لم أكن يقظى.. أنا متأكّدة. وما أراه الآن هو رؤيا حقيقيّة.. كأنّما كنت أراها بعين رأسي!
وسطَعتْ من بين الحاضرين أشعّة نور، وتوجّهت إليّ. ما إن تَقدَّم النور نحوي حتّى تبدّل لونه. لمّا وصل أمامي كان أخضر اللون واضحاً شديد الوضوح، ثمّ أخذ يتبدّل أمام أجفاني المغلقة لوناً بعد لون: أصفر، أزرق، برتقاليّ، أحمر، أخضر. ثمّ تجمّع النور كلّه في نقطة واحدة.. بدأت تتشكّل بشكل قامة مديدة ظهرت أمامي: لحية طويلة، ووجه مستطيل.. رائع. قامته الراسخة عليها ثياب بيضاء. ولهذا الرجل شال أخضر.. هو نفس الشال الذي رأيته حول عنق أبي. كانت خضرة الشال منسجمة بشكل مدهش مع لون وجه الرجل، مع أنّي لم أقدر على تمييز ملامح وجهه، وكأنّما هي مغيَّبة عنّي بالنور. جاء الرجل إليّ ومسح على رأسي:
ـ ماذا بك يا ابنتي ؟
وقفت قبالة قدمَيه:
ـ يا سيّد.. أنا مريضة. أنا حمامة مكسورة الجناح. خلطتُ نفسي بحماماتك الطاهرة لأشفى.
ضحك الرجل ضحكة كأنّها وردة تعبق بالعطر.. عطر الورد الجوري.
ـ إنهضي يا حمامتنا المكسورة الجناح، وكوني مع الحمامات الطاهرة. حلّقي معها، فقد شُفيتِ.
صحتُ في لهفة:
ـ يعني أنا...؟!
وكرّةً أخرى أمرّ يده الودودة على رأسي، وقال:
ـ إنّ أحداً لا يرجع عن هذا البيت يائساً، إلاّ أن يكون هو يائساً.
وفي لحظة.. تحوّلَتْ هذه القامة المديدة إلى نور، انطلق من أمامي كالشهاب.
استيقظتُ من النوم. كان المصحف مفتوحاً على الرَّحلة أمامي. نفسها سورة (الرحمن). وقرأت.. « فبأيِّ آلاءِ ربِّكُما تُكَذِّبان » ؟!.
كانت أمّي قد أتمّت سلام صلاتها، ومدّت يدها المؤمِّلة الراجية نحو السماء.. وكأنّما قد وصل دعاؤها إلى العرش.
(ترجمة وإعداد: إبراهيم رفاعة من مجلّة الزائرـ العدد 33ـ كانون الثاني 1996)
نقلا من شبكة الامام الرضا