التاريخ عند الإمام (ع) في المجال الوعظي، وفي المجال السّياسي الفكري
إستخدم الإمام عنصر التّاريخ في مجالين، أحدهما مجال السّياسة والفكر، وثانيهما مجال الوعظ.
وهنا يواجهنا سؤال هام:
لماذا يدخل الإمام عنصر التاريخ في أحاديثه الوعظية، أو في أحاديثه وخطبه و كتبه السياسيّة والفكريّة، أو في غير ذلك من مجالات توجيههِ كرجل رسالة وعقيدة وحاكم دولة ؟ لماذا التاريخ ؟
ونقول في الجواب على هذه المسألة الّتي تثير الشك حول جدوى التاريخ باعتباره مادة أساسية في البنية الثقافية للإنسان والمجتمع أو باعتباره عاملاً مساعداً في الأعمال الفكريّة الّتي تتناسب مع مادّة التاريخ... نقول في الجواب:
إِنّ الحياة الإنسانية لدى جميع الناس في جميع الأزمان والأوطان واحدة في أصولها العميقة، ومكوّناتها الأساسية، وحوافزها، فهي نهر متدفق من التجارب والآمال والإنجازات وخيبات الأمل، وهذا ما يجعل الأسئلة الّتي تثيرها مشكلات الحاضر حافزاً نحو استرجاع الماضي باعتباره عملاً مكمّلاً وضرورياً في البحث الصحيح الموضوعي عن أجوبة أكثر سداداً وحكمة تؤدّي إِلى حلول صائبة أو مقاربة للصواب للمشكلات الّتي تواجه الإنسان في حاضره، أجوبة معجونة بالتّجارب الإنسانيّة
42
السّابقة.
وقد يثير هذا التحليل حفيظة فريق من أهل الفكر المشتغلين بالسياسة، أو فريق من أهل السياسة يدعون لأنفسهم صلة بالفكر يرون - أولئك وهؤلاء - أنّ النزعة التاريخيّة، أو العقلية التاريخية (السلفية) تعيق نموّنا في الحاضر وتقدّمنا في المستقبل، لأنّها تشدّنا دائماً إلى الماضي، إلى قيمه وتصوّراته. إنّ التاريخ عند هؤلاء مرض يشوّه الحاضر ويقضي على المستقبل.
ولكن هذا الرأي بعيد عن الصّواب.
بطبيعة الحال نحن - في فهمنا لدور التاريخ كعامل مكوّن في البنية الثقافية للإنسان والمجتمع ومساعد في عمليات الفكر - لا ندّعي أنَ من الحكمة أنْ يجعل الإنسان نفسه سجين التاريخ، لسنا في فهمنا لدور التاريخ مع غلاة النزعة التاريخية الّذين يرون أنّ التاريخ هو الحقيقة كلّها، لا مرحلة من مراحل نمو الحقيقة التجريبية فقط. فهذا الموقف الفكري يتّسم بالغلو والشطط.
ولكن ليس من الحكمة أيضاً أنْ يواجه الإنسان حاضره ويتجه نحو مستقبله وهو بلا جذور، إنّه حين لا يستشعر تاريخه الخاص بأمته أو تاريخ الإنسانيّة يفقد القدرة على الرؤية الصحيحة، ويفقد القدرة على تقويم المواقف الّتي تواجهه في خاطره تقويماً سليماً سواء في ذلك ما يتعلق منها بالحاضر نفسه أو ما يتعلق منها بالمستقبل، إنّه في هذه الحالة يتحرّك في الفراغ.
لهذا وذاك نرى أنَّ الإستخدام المتّزن للتاريخ، الإستخدام المتّسم بالحكمة والإعتدال يجعلنا أقدر على التحرّك في حاضرنا وأكثر شعوراً بخطورة قراراتنا فيما يتعلق بشؤون المستقبل، لأن التاريخ في هذه الحالة يعمّق حِسَّنا الأخلاقي حين اتخاذنا قرارات مستقبلية تمسّ نتائجها حياة أجيال، نصنع بهذه القرارات - المستقبليّة بالنسبة إلينا - حاضرها هي الّذي هو مستقبلنا المظنون الّذي قد لا نشاركها فيه لاننا نكون حينئذٍ قد غادرنا الحياة، ومن ثمّ فلا نواجه نتائج قراراتنا الماضية.
بدون استرجاع الماضي وما يمنحنا ذلك من عمق في الرّؤية، وغنى في التجربة
43
الإنسانيّة ووعي لاستمرار الحضارة الإنسانيّة فينا وفيمن يأتي بعدنا من الأجيال - بدون ذلك لن يكون في وسعنا تفادي أخطاء وقعت في الماضي كما لن يكون من حقنا التمتع بنتائج تجارب ناجحة أنجزت فيه، كما أننا في هذه الحالة قد نتّخذ بالنسبة الى المستقبل الّذي لا نملكه وحدنا قرارات متهوّرة شديدة الخطورة بالنسبة إلينا وإلى وضعية ومصير الأجيال الآتية.
إنّ الغلوّ في استرجاع التّاريخ، فكراً وعملاً، قد يجعل من التّاريخ مقبرة للحاضر والمستقبل، ويجعل الإنسان غريباً في العالم الّذي يعاصره ويحيط به ويتدفّق بالحياة نحو المستقبل من حوله.
كما إنّ الغلوّ في رفض التاريخ، والإنقطاع عنه والإنصراف عن تجاربه ومآثره قد يجعل الإنسان «ريشة في مهبّ الريح» عاجزاً عن التماسك في الحاضر، ويفقده القدرة على ممارسة دوره الأصيل في بناء الحضارة ويجعل منه مجرّد ممثّل لأدوار يضعها الآخرون يعكس هو بتمثيله إراداتهم وأفكارهم وموجاتهم.
إذنْ لابدّ للإنسان من أن يتعامل مع التاريخ باعتدال يجعله دليلاً في حركته وتربة ينمو فيها الحاضر الأصيل والمستقبل الأكثر يمناً وأصالة.
واستجابة لهذه الضّرورة تعامل أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب (ع) مع التّاريخ في مجال الوعظ وفي مجال السّياسة والفكر.
وأكبر همنا في هذه الدراسة هو التّعرف على النظرة التاريخية للإمام في مجالي السّياسة والفكر، مكتفين بالنسبة إلى المجال الوعظي ذي المحتوى التاريخي بتقديم نموذج واحد من النصوص الوعظية في كتاب نهج البلاغة، وتحليله مع تسليط الأضواء على الجانب التاريخي فيه.
منقول من كتاب /حركة التاريخ عند الامام علي/الشيخ محمد مهدي شمس الدين
.