من هو الشيخ الصدوق؟
هو محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابَوَيه، أبو جعفر المعروف بـ «الصدوق».
وُلد بعد سنة 305 هجريّة، في أوائل فترة السفير الثالث للإمام المهديّ (عليه السّلام) الحسين بن روح، في مدينة قمّ المقدّسة، ببركة دعاء صاحب الأمر الإمام المهديّ (سلام الله عليه).
روى الشيخ الطوسيّ أنّ عليّ بن الحسين بن بابوَيه لم يُرزَق من بنت عمّه ولَداً، فكتب إلى الحسين بن روح أن يسأل الإمام المهديّ (عليه السّلام) أن يدعوَ الله له أن يرزقه أولاداً فقهاء، فجاء الجواب: إنّك لا تُرزق من هذه، وستملك جارية دَيلميّةً وتُرزَق منها ولَدَينِ فقيهَين (1).
وجاء في (سفينة البحار 59:3) للشيخ عبّاس القمّي: وُلد بدعاء صاحب الأمر، ونال بذلك عظيم الفضل والفخر. وصفه الإمام (عليه السّلام) في التوقيع الخارج من ناحيته المقدّسة بأنّه فقيه خيّر مبارك، ينفع الله به. فعمّت بركتُه الأنام، وانتفع به الخاصّ والعامّ.
نزل الشيخ الصدوق في الريّ (جنوب طهران اليوم)، ووجّه الناس بخراسان، ثمّ ورد بغداد سنة 355 هجريّة، وقد سمع منه شيوخ زمانه وهو حَدَث السنّ (2).
المنشأ العائليّ
أُسرة الشيخ الصدوق أُسرة معروفة بالعلم والفضل، ومن البيوتات العريقة المشهورة في مدينة قمّ المقدّسة. أبوه أبو الحسن عليّ بن الحسين كان فقيهاً وجيهاً ومرجعاً في الأحكام الشرعيّة. ذكره الشيخ الطوسيّ في رجاله وفهرسته، والعلاّمة الحليّ في (خلاصة الأقوال)، وأورد اسمَه العلماء في إجازاتهم له فأثنوا عليه، إذ كان يحظى بمقام كريم، فهو أوّل من ابتكر طرح الأسانيد، وجمع بين النظائر وأتى بالخبر مع قرينه. وإلى ذلك كان متـّصفاً بالسؤدد والفضيلة، فنبغ على يديه جماعة كثيرة من العلماء.
أمّا مؤلّفاته، فاشتهر منها قرابة عشرين كتاباً، وضاعت البقيّة، وقد ذكر ابن النديم في (الفهرست ص 277) أنّها مئتا كتاب.
وكان من علوّ قدره أن كتب له الإمام الحسن العسكريّ (عليه السّلام) وصيّةً جاء فيها:
أُوصيك يا شيخي ومعتمَدي وفقيهي، أبا الحسن عليَّ بن الحسين القمّي ـ وفّقك الله لمرضاته، وجعل من صُلبك أولاداً صالحين برحمته ـ بتقوى الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة (3).
أما أخوه الحسين بن عليّ فقد عقد مجلساً للبحث والتدريس وهو دون العشرين، فحضر مجلسَه محمّدُ بن عليّ الأسود، فإذا نظر إلى إسراعه في الأجوبة أكثر تعجّبه به لصغر سنّه، ثمّ قال: لا عجَب؛ لأنّك وُلدتَ بدعاء الإمام المهديّ (عليه السّلام) (4).
وهكذا سائر أُسرته وأقربائه.
أسفاره وحصائده
حفلت حياة الشيخ الصدوق بالسفر الكثير والبعيد، فكانت له رحلات طويلة إلى بلدان وأمصار لم يطلب فيها نزهة أو ترفيهاً، بل كانت للبحث والتنقيب عن الأحاديث الشريفة والأسانيد الصحيحة والمصادر الموثـّقة، من أجل العلم: تعلّمه وتعليمه.
وبعد أن تتلمذ على يد أساتذة قمّ وتخرّج على مشايخها، هاجر إلى (الريّ) بناءً على طلب مُلحٍّ من أهلها، فأقام فيها مدّةً ثمّ هاجر منها بعد سنة 339 أو بعد سنة 349 هجريّة.. حيث ذهب لزيارة مشهد الإمام عليّ بن موسى الرضا صلوات الله عليه في (خراسان)، عاد بعدها إلى الريّ. وكان قبل ذلك قد دخل مدينة (نيشابور) وسمع فيها جمعاً من مشايخها كما حدّثه قبل ذلك بمَرو الروذ جماعة، ثمّ رحل إلى مدينة (بغداد) في تلك السنة وسمع جماعة من مشايخها.
وفي سنة 354 ورد (الكوفة) وسمع الحديث من جماعة من مشايخها أيضاً، وحدّثه بـ (فيد) (5) أبو عليّ أحمد بن أبي جعفر البَيهقيّ وفي تلك السنة أيضاً ورد (هَمَدان) بعد رجوعه من بيت الله الحرام، وسمع شيوخها ويظهر من (فهرست النجاشيّ ص 276) أنّ الشيخ الصدوق قد دخل بغداد مرّة أُخرى عام 355 هجريّ.
هذا، إضافة إلى سفره إلى (بلْخ) و(سَرَخْس) و(إيلاق) و(طوس) و(استرآباد) و(جرجان) و(فرغانة) و(مكّة) و(المدينة) و(سمرقند) فأفاد واستفاد.
وكان يطوف في البلدان يجتمع بمشايخ الحديث والفقه، يستمع منهم ويقرأ الروايات عليهم ويأخذ الإجازات عنهم، فاستطاع بذلك أن يجمع ثروة حديثية ضخمة فاخرة، نفع بها المسلمين نفعاً كبيراً، وحفظ ما تناثر من شؤون الدين وأموره، حتـّى صنّف وألّف ممّا جمعه ما يقارب الثلاثمائة كتاب، كما نصّ على ذلك الشيخ الطوسيّ في (الفهرست) وقد عدّ منها أربعين كتاباً، فيما أورد النجاشيّ في فهرسته نحو مئتين من كتبه ومصنّفاته القيّمة في شتى العلوم والمعارف.
مؤلّفاته
أشهرُها، كما ذكر العلاّمة الحليّ في (خلاصة الأقوال)، وابن شهرآشوب في (معالم العلماء)، والميرزا عبد الله أفندي في (رياض العلماء)، وآقا بزرك الطهرانيّ في (الذريعة) و(طبقات أعلام الشيعة):
1 ـ كتاب مَن لا يَحضرُه الفقيه: ألّفه بـ «إيلاق» حيث ورد عليه فيها شريف الدين أبو عبد الله المعروف بـ (نعمة الله) وسأله أن يصنّف له كتاباً في الفقه والحلال والحرام، والشرائع والأحكام، ويُسمّيه (كتاب مَن لا يحضره الفقيه)، فاستجاب له وصنّف له هذا الكتاب القيم المطبوع اليوم بأربع مجلّدات جمع فيه أحكام الشريعة.
2 ـ إكمال الدين وإتمام النعمة: ألّفه بعد رجوعه إلى مدينة نيسابور قاصداً زيارة الإمام الرؤوف عليّ الرضا (عليه السّلام)، حيث وجد أكثر المختلفين إليه قد حَيّرتم غَيبة الإمام المهديّ (عليه السّلام) حتّى دخلت عليهم الشبهات، فجعل يبذل جهوده الغيورة في إرشادهم إلى الحقّ وردّهم إلى الصواب، من خلال الأخبار الصحيحة الصادرة عن النبيّ الأكرم وآله صلوات الله عليه وعليهم.
3 ـ الأمالي: المعروف بـ (أمالي الصدوق).
4 ـ معاني الأخبار.
5 ـ الخصال.
6 ـ علل الشرائع.
7 ـ عيون أخبار الرضا (عليه السّلام).
8 ـ فضائل الشيعة.
9 ـ صفات الشيعة.
10 ـ مصادقة الإخوان.
11 ـ المواعظ.
12 ـ الاعتقادات.
13 ـ ثواب الأعمال وعقاب الأعمال.
14 ـ التوحيد.
15 ـ فضائل الأشهر الثلاثة (رجب، شعبان، شهر رمضان).
16 ـ المُقِنع.
إلى عشرات من المؤلّفات التي لم تصل إلينا أو لم تُطبع بعد، ومنها: دعائم الإسلام في معرفة الحلال والحرام، المرشد، الوصايا، فضل العلَويّة، الخواتم، المواريث، مقتل الإمام الحسين (عليه السّلام)، الرجال، المصباح، المعراج، دين الإماميّة، تفسير لم يُتـّمه وكثير من المؤلّفات في علوم الإسلام ومعارفه وما تحتاج إليه الأمّة.
منزلته العلميّة
نشأ الشيخ الصدوق في مرابع العلم وأجواء الفضيلة، فغذّاه والده من لُباب المعارف وأغدق عليه من فيض علومه وآدابه. ثمّ هو بنفسه كان يلتمس سبيل الزهد والتقوى وطلب العلم الصحيح، فزاد ذلك في تكامله وحسّن في نشوئه العلميّ. وفوق ذلك كلّه وقبله. أنّه وُلد بدعاء مبارك خاصّ من قِبل الإمام المنتظر المهديّ (عجّل الله تعالى فرَجَه الشريف).
وكانت نشأته الأُولى في عشّ آل محمّد صلوات الله عليهم بقمّ المقدّسة، البلد الطيّب الخصيب بالمواهب، المتوشّح بالفضائل والمعارف، وللبيئة الصالحة أثرها وشأنها.
ومؤشّرات المنزلة العلميّة للشيخ الصدوق تتّضح من خلال أمور ثلاثة:
الأوّل: مؤلّفاته القيّمة الجديدة والمبَكّرة في عالم التأليف.
الثاني: مباحثاته ومناظراته التي أظهر فيها تفوّقاً وفضلاً، وإقناعاً للآخرين. وكان منها في حضور الأمير ركن الدين البويهيّ الدَّيلميّ.. الذي أكرمه، وكانَ خاطبَه بأنّ فضلاء المجلس مختلفون في وجوب طعن الشيعة وجوازه وعدمه، فانبرى الشيخ الصدوق في عَرض الإمامة والولاية بعد النبوّة الخاتمة. وكانت له أجوبة شافية كافية فيما عُرضت عليه من المسائل المشكلة، مُثبتاً بطلان المتجاوزين.
وبعد أن ناظَرَ وحاجَج، وغلبت براهينه مزاعم المدّعين، قال له ركن الدولة: إنّ الحقّ مع الشيعة.
حيث انبسط وجه السلطان لِما سمع من الشيخ الصدوق من أحاديث لزوم الحُجّة في كلّ زمان، فأظهر ركن الدولة غاية تكريمه للشيخ وأعلن كلمة الحقّ في ذلك المجلس، ونادى: إنّ اعتقادي في الدِّين هو ما ذكره هذا الشيخ الأمين، وإنّ الحقّ هو ما تذهب إليه الفِرقة الإماميّة (6).
وكان للشيخ الصدوق مباحثات أُخرى مع الملاحدة وأهل الشبهات أورد بعضها في كتابه (إكمال الدِّين وإتمام النعمة)، ذكرها الخوانساريّ في (روضات الجنّات 14:6) وكانت في مجلس ركن الدولة أيضاً.
الثالث: من الأُمور التي تكشف عن المنزلة العلميّة للشيخ الصدوق، شهادات العلماء وأهل الاختصاص، وقد جاءت عاطرةً بالثناء عليه، زاخرةً بالتفضيل، منها:
• قول الشيخ الطوسيّ: الشيخ الصدوق، جليل القدر، كان حافظاً للأحاديث، بصيراً بالرجال، ناقداً للأخبار، لم يُرَ في القميّين مِثله في حفظه وكثرة علمه (7). وكان بصيراً بالفقه والأخبار والرجال (8).
• وقول ابن إدريس: كان ثقةً جليل القدر، بصيراً بالأخبار، ناقداً للآثار، عالماً بالرجال، حفظةً، وهو أُستاذ الشيخ المفيد (9).
• ووصفه السيّد ابن طاووس بقوله: الشيخ المعظّم (10) والشيخ المتَّفق على علمه وعدالته (11).
• وقال فيه المحقّق الكركيّ: الشيخ الثقة الصدوق، المحدّث الحافظ... الرَّحَلة المصنّف الكنز (12).
• وسمّاه الشيخ البهائيّ رئيسَ المحدّثين وحجّة الإسلام (13).
• ولقّبه الشيخ محمّد باقر المجلسيّ بالفقيه الجليل المشهور (14).
• ووصفه السيّد محمّد مهدي بحر العلوم في (الفوائد الرجاليّة) قائلاً: ركنٌ من أركان الشريعة، رئيس المحدّثين، والصدوق فيما يرويه عن الأئمّة عليهم السّلام أجمعين.
إلى غير ذلك من كلمات الثناء والإطراء والتوثيق والإقرار له بالفضل والأفضليّة على غيره في زمانه.
هذا، فضلاً عمّا كان للشيخ الصدوق من المرجعيّة العليا في الفُتيا، إذ كانت الأسئلة المختلفة في شتّى العلوم والمسائل تُرسل إليه من أرجاء العالم الإسلامي والحواضر العلميّة، فيجيب عنها. وقد أورد النجاشيّ في فهرسته أنّه كانت ترد إليه الرسائل من: واسط، وقزوين، ومصر، والبصرة، والكوفة، والمدائن، ونيشابور وغيرها من المدن.
وفاته
بعد عُمرٍ عامر بالعطاء، نافح بالعلم، مشرق بأنوار المعرفة، تـُوفـّي الشيخ الصدوق في بلدة الريّ، فدُفن قرب مرقد السيّد عبد العظيم الحسنيّ رحمه الله.
وخبر وفاته مستفيض مشهور ذكره الخوانساريّ في (روضات الجنات 132:6،140) وعدّه من كراماته. فيما حُدّد قبره في المنطقة المسمّاة بـ (شهر ري) اليوم جنوبيّ مدينة طهران، عند بستان طغرليّة في بقعة عالية ظهرت عنها الكرامات بعد مدفنه.
وفي أطراف قبره قبور كثيرة لأهل الفضل والإيمان (15).
وكانت وفاة الشيخ الصدوق طاب ثراه سنة 381 هجريّة، عن عمرٍ مبارك بلغ نيّفاً وسبعين عاماً.
رحمه الله، ونفع المسلمين بعلومه وآثاره.
هوامش:
(1) الغيبة، للشيخ الطوسيّ 210.
(2) لؤلؤة البحرين، للشيخ يوسف البحرانيّ 372.
(3) الاحتجاج، للشيخ أبي منصور أحمد بن عليّ الطبرسيّ. روضات الجنات، للسيّد محمّد باقر الموسويّ 274:4. مستدرك الوسائل، للميرزا النوري.
(4) الغَيبة، للطوسيّ 201.
(5) بلدة صغيرة في منتصف الطريق ما بين الكوفة ومكّة المكرّمة.
(6) روضات الجنّات 141:6 ـ 142.
(7) الفهرست 156.
(8) رجال الطوسيّ 495.
(9) السرائر 529:2.
(10) الإقبال 465.
(11) فرَج المهموم 129.
(12) الإجازات 61 ، 66.
(13) الدراية 9.
(14) الوجيزة 165.
(15) سفينة البحار 60:3.