وصل اللهم على سيدة نساء العالمين الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (ع)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
العباس عليه السلام حامي الظعينة
حامي الظعينة أين منه ربيعة***أم أين من عليا أبيه مكدم
في كتفه اليسرى السقاء يقلّه***وبكفّه اليمنى الحسام المخذم
مثل السحابة للفواطم ريّه***ويصيب حاصبه العدوّ فيرجم
الظعينة هي المرأة في الهودج ، وجمع الظعينة هو : ظعائن وظُعُنْ ، وأبوالفضل العباس (عليه السلام) هو حامي الظعينة ، وحامي الظُعُن ، وحامي ظعينة كربلاء ، وحامي ظعينة الإمام الحسين (عليه السلام) ، بل حامي ظُعن الرسالة والنبوة ، كما كان أخوه الإمام أبو عبدالله الحسين (عليه السلام) حامي الشريعة وأحكامها ، وحافظ الكتاب وحدوده ، ومن أحكام الشريعة ، وحدود الكتاب : حماية الظُعن وكفالة الظعينة ، فكان الإمام الحسين (عليه السلام) كباقي الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) هو حافظ أساس هذا الحكم الإسلامي الإنساني ، وحامي أصله وفرعه ، وقد وكّل أباالفضل العباس (عليه السلام)لهذه المهمّة الإنسانيّة والإسلاميّة وهي حماية الظُغن ، حتّى يقوم أبوالفضل العباس (عليه السلام) بحماية موكب النساء والأطفال ذراري رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحريمه ، الّذين اصطحبهم معه في سفره إلى العراق ، فقام بها أحسن قيام ، وأدّاها أجمل أداء ، حتّى عُرف منها بهذا اللقب الكريم ، ووسم بهذا الوسام العظيم : حامي الظعينة .
إنّ الغيرة الإسلاميّة والإنسانيّة ، والكرامة النفسيّة والإجتماعيّة ، تحثّ الإنسان إلى حماية نسائه وأطفاله ، وتحضّه على توفير الأمن والأمان لهم ، وتدعوه إلى حياطتهم ورعايتهم ، وذلك في كلّ مكان وزمان ، في السفر والحضر ، وفي الحلّ والترحال ، وفي النزول والركوب ، ومن أولى برعاية هذا الخلق النبيل من مؤسّس الأخلاق ومهذّبه ، ومعلّم الإنسانيّة ومزكّيها ، ومبلّغ الإسلام وحاميه ، الرّسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة من أهل بيته (عليهم السلام) ، ولذلك كانوا (عليهم السلام) إذا أرادوا بنسائهم وأطفالهم السفر ، أركبوهم في هوادج مغطّاة بأغطية ، ومسدّلة بستور ، حتّى يأمنوا من نظر الأجانب ، ويحفظوا من الحرّ والبرد ، وكذلك فعل الإمام الحسين (عليه السلام) حين خرج بنسائه وأطفاله من مدينة جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) متّجهاً نحو مكة المكرمة ومنها إلى العراق ، وأوكل بذلك أخاه الأغر ، وعضيده الوفي ، أباالفضل العباس (عليه السلام) ، وكان موكب النساء على أثر ذلك قرير العين ، هادىء البال ، مطمئنّ النفس والقلب ، إذ على رأسه سيّده الإمام الحسين (عليه السلام) وفي حمايته أبوالفضل العباس (عليه السلام) وسائر أبطال بني هاشم .
مع ربيعة بن مكدم
وفي البيت الأوّل الّذي جعلناه مطلع هذه الخصّيصة ، يقول ناظمها السيّد جعفر الحلّي وهو يخاطب أبا الفضل العباس (عليه السلام) : لقد نال أبوالفضل العباس (عليه السلام)وبكلّ جدارة لقب حامي الظعينة ، وتفوّق في تضحيته من أجل ظعائن الرسالة والإمامة على جميع أقرانه ممّن ضُرب به المثل في هذا المجال : كربيعة بن مكدم الكناني ، وكان ربيعة واحداً من بني فراس بن غنم ، حيث عرف بحامي الظُعن حيّاً وميّتاً ، وأثنى عليه الشعراء ، وتغنّوا بموقفه الشجاع فخراً واعتزازاً ، وترنّموا بكبير شهامته ، وشدّت غيرته على ظُعنه ، في كلّ موطن وموقف ، وكان من قصّته على ما حكي من مجمع الأمثال عن أبي عبيدة : إنّ نبيشة بن حبيب السلمي خرج غازياً ، فلقي ظعناً من كنانة بالكديد ، فأراد أن يحتويها ، فمانعه ربيعة بن مكدم في فوارس ، وكان غلاماً له ذؤابة ، فشدَّ نبيشة فطعنه في عضده ، فأتى ربيعة اُمّه وقال :
شدّي عَلَيَّ العصبَ اُمَّ سيّار***فقد رزئت فارساً كالدينار
فأجابته اُمّه قائلة :
إنّا بني ربيعة بن مالك***نُزرَء في خيارنا كذلك
مابين مقتول وبين هالك
ثمّ ضمّدت له جراحه وعصبته ، فلمّا أراد أن يذهب إلى القوم استسقاها ماءاً فقالت له اُمّه : إذهب فقاتل القوم ، فإنّ الماء لا يفوتك ، فرجع وكرّ على القوم فكشفهم ، ورجع إلى الظُعن وقال لهنّ : إنّي ميّتٌ من هذه الطعنة ، ولكن سأحميكنّ ميّتاً كما حميتكنّ حيّاً ، وذلك بأن أقف بفرسي على العقبة وأتّكىء على رمحي ، فإذا فاضت نفسي كان الرمح عمادي ، فالنجاء النجاء ، فإنّي أردّ بعملى هذا وجوه القوم ساعة من النهار ، فقطعت الظُعن العقبة ، ووقف هو بإزاء القوم على فرسه متّكأً على رمحه ، ونزف منه الدم إلى أن فاضت روحه ومات وهو يتمنّى أن يأتي إليه من يحمله إلى أهله ويجعله بينهم ، لكن خاب أمله ومات وهو معتمد على رمحه كأنّه حيّ ، والقوم بإزائه يحجمون عن الإقدام عليه ، فلمّا طال وقوفه في مكانه ورأوه لا يزول عنه رموا فرسه ، فقمص الفرس وسقط ربيعة لوجهه على الأرض ، فعلموا أنّه ميّت ، فتوجّه القوم عندها في طلب الظُعن ، فلم يلحقوهنّ ، ومن هذه القصّة اشتهر : أنّه لم يُعرف قتيل حمى الظعائن مثل ربيعة بن مكدم .
بين ربيعة والعباس (عليه السلام)
ولكن أين ربيعة بن مكدم من أبي الفضل العباس (عليه السلام) ؟ إنّ ربيعة لو كان حيّاً لافتخر بغيرة العباس على ظعائنه ، ولاندهش من شدّة غيرته ، وعظيم حيطته ورعايته لظعائنه ، إنّ ربيعة لمّا طُعن راح يلتجىء إلى اُمّه كي تضمّد جرحه وتعصّبه ، فتقوم اُمّه بتشجعيه وبعث الحميّة فيه . بينما العباس (عليه السلام) لمّا قطعوا يمينه أخذ يرتجز ويقول ما يبعث الغيرة في نفس كلّ سامع ، والحميّة في قلب كلّ إنسان حرّ ، إنّه كان يقول : يمناي لديني ولإمامي ـ الّذين علّماني حماية الظُعن ، والغيرة على الأهل والعيال ، وخاصّة على مثل ربيبات الرسالة والإمامة ـ الفداء والوقاء .
نعم ، إنّ ربيعة بن مكدم يطلب الماء من اُمّه ليروّي به عطشه ، فتصرفه اُمّه عن شرب الماء وتوقفه على أنّ حماية الظُعن أهمّ من انشغالك بشرب الماء وهنّ معرّضات للخطر ، بينما أبوالفضل العباس (عليه السلام) يدخل العلقمي فاتحاً للماء ، ويقتحمه مستولياً عليه ، ويدني الماء من فمه ، ويقرّبه إلى فيه ، بلا أيّ مانع ولا رادع ، ودون أيّ انشغال به أو تثبّط له على الأمر الأهمّ ، الّذي هو حماية ظعائن الرسالة والإمامة ، فإنّه (عليه السلام) مع أنّ الماء في متناوله ورحابه ، والشرب جائزاً له ومباحاً عليه ، أعرض عن شرب الماء مواساة لأخيه وسيّده الإمام الحسين (عليه السلام) ولظعائن النبوّة والولاية ، وصرف نفسه عن الإلتذاذ بشرب الماء مع شدّة عطشه ، وعظيم ظمئه ، ليشتغل بالأهمّ من ذلك ألا وهو حماية الظُعن والسقاية لهنّ .
إنّ ربيعة يقف بفرسه على العقبة ، ويتّكىء على رمحه ، حتّى إذا نزف دمه ومات يبقى معتمداً على رمحه ، إنّه أراد بذلك ردّ وجوه القوم عن الظعائن ساعة من النهار ، ثمّ لمّا رموا فرسه وقمص الفرس سقط على وجهه إلى الأرض ميّتاً ،
الإمام الحسين (عليه السلام) وحماية الظعائن
وهكذا ، فاق أبوالفضل العباس (عليه السلام) كلّ أقرانه في هذه المكرمة النبيلة ، وزاد عليهم جميعاً في التضحية من أجلها ، والفداء في حمايتها ، حيّاً وميّتاً ، حتّى صار هو وحده الجدير بهذ اللقب الكريم : حامي الظعينة .
نعم إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) هو الإمام المنصوص عليه من عند الله تبارك وتعالى ، والإمام المنصوص عليه هو إمام في كلّ المحاسن والمكارم ، ومنها مكرمة حماية الظُعن ، ولذلك يكون الإمام الحسين (عليه السلام) هو السبّاق حتّى في هذه المكرمة ، ويكفي له دليلاً موقفه (عليه السلام) بعد سقوطه من على ظهر جواده في يوم عاشوراء ، حيث انّه (عليه السلام) بقي بعدها مدّة طريح الأرض ، وقد أعياه نزف الدم ، والقوم يهابون الدنوّ منه ، والإقتراب إليه ، وقد اختلفوا بينهم في حياته وموته ، فمن قائل أنّه قد مات ، ومن قائل : إنّه لم يمت وإنّما عمل هذا مكيدة ، فقال شمر بن ذي الجوشن : اُقصدوا مخيّمه ، فإن كان حيّاً لم تدعه غيرته الهاشميّة أن يسكت عنكم ،
فقصدوا الخيام فتصارخت النسوة وعلا أصواتهنّ ، فأراد الإمام الحسين (عليه السلام)النهوض إليهم فلمْ يستطع ، فنادى بهم : ويحكم يا شيعة آل أبي سفيان ! إن لم يكن لكم دين ، وكنتم لا تخافون المعاد ، فكونوا أحراراً في دنياكم ، وارجعوا إلى أحسابكم إذ كنتم أعراباً .
فناداه شمر وقال : ما تقول يا ابن فاطمة ؟
قال : أقول : أنا الّذي اُقاتلكم وتقاتلوني ، والنساء ليس عليهنّ جناح ، فامنعوا عُتاتكم عن التعرّض لحرمي ما دمت حيّاً .
فقال شمر : لك هذا ، ثمّ صاح بالقوم : إليكم عن حرم الرجل ، فاقصدوه في نفسه ، فلعمري لهو كفو كريم ، فقصده القوم وعطفوا عليه .
وإلى هذا المعنى أشار الشاعر الحسيني حيث يقول :
قال اقصدوني بنفسي واتركوا حرمي***قد حان حيني وقد لاحت لوائحه
فالإمام الحسين (عليه السلام) إذن هو مؤسّس هذه المكارم والمضحّي من أجلها ، وأبوالفضل العباس (عليه السلام) هو خير من اقتدى بأخيه وإمامه ، الإمام الحسين (عليه السلام) وفاز السبق في هذه المكرمة ، ونال وسام : حامي الظعينة ، وحامي الظُعن ، وحامي ظعينة الإمام الحسين (عليه السلام) بجدارة .
كتاب الخصائص العباسية سنة الطبع : 1378 ـ 1420 هـ
وصلى الله تعالى على النبي الكريم محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين