اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الأمّة.. بين تَضييع القَدْر، وضَياع القَبْر!
كانت الأيّام التي أعقبت رحلة النبيّ المصطفى صلّى الله عليه وآله أيّاماً على غايةٍ كبرى من الخطورة والحسّاسيّة، حتّى أنّها مرّت بمرحلةٍ مصيريّة لا تتكرّر في التاريخ أبداً.
وكان القرآن الكريم قد عرّف الأمّة بشيءٍ من فضائل أهل البيت وأفضليّاتهم صلَواتُ الله عليهم، وقدّمهم بأنّهم آل الرسول والأَولى به نَسَباً وحَسَباً ووراثة في العِلم ومواريث النبوّات، وخلافةً ووصاية، ومَرجِعاً، أولياءَ أمر، وأوّلُهم أمير المؤمنين عليّ، وآخِرهم خاتَم الوصيّين المهديّ، صلوات الله وسلامه عليهم، وقد قال تعالى مُرشِداً لكي لا يقع الخلاف والاختلاف، فضلاً عن التنازع والنزاع:
ـ إنَّما وليُّكمُ اللهُ ورسولُه والَّذين آمنوا آلذينَ يُقيمونَ الصلاةَ ويُؤتونَ الزَّكاةَ وهُم راكعُون [ المائدة:55 ].
ـ يا أيُّها الَّذينَ آمنوا أَطيعُوا اللهَ وأَطيعُوا الرسُولَ وأُولي الأَمرِ مِنكُم، فإنْ تَنازَعْتُم في شَيءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللهِ والرسولِ إنْ كنتُم تُؤمنونَ باللهِ واليومِ الآخِرِ ذلك خيرٌ وأحسَنُ تأويلاً [ النساء:59 ].
وقد سبق أن أوصى رسولُ الله وأكّد مِراراً أن تعودَ الأُمّةُ مِن بعده إلى أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب عليه السلام، فهو ـ كما صرّح صلّى الله عليه وآله ـ في عشرات المواقف أنّه وصيُّه، وخليفتُه مِن بعده، وخيرُ مَن يخلفه في هذه الأمّة، وأنّه عليه السلام الأعلمُ والأتقى، والأسبق إلى الإسلام والأقضى.. وكم دافَعَ صلّى الله عليه وآله عن وصيّه وخليفته في حياته، وبلّغ له في مواضع متعدّدة كان أشهرُها وأعظمها وقعة الغدير العظمى التي بايع فيها قرابة مئة ألف مسلمٍ عائدين من الحجّ مع رسول الله من مكة في عام حجّة الوداع، بايعوا عليّاً بإمرة المؤمنين.
وتكرّرت وصايا رسول الله صلّى الله عليه وآله في الإمام عليّ إلى آخر ساعةٍ من عمره المبارك الشريف وهو على فراش الوفاة، حتّى أراد أن يدوّن ذلك فمُنِع ورُمي بالهُجْر! وحدث خلاف ونزاع، وكثر اللَّغط، فقال لأصحابه المخالفين: « قُوموا عنّي، ولا ينبغي عندي التنازع! » [ صحيح البخاري 36:1، و 137:5 ].
وكان لابدّ مِن إفهام الأمّة ما هي الخلافة الإلهيّة بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله، وفيَمن تعيّنت، فإن أبَتِ الأُمّة إلاّ أن تركب أهواءها فالاعتزال عنها هو عقوبتها التي تتحمّل مسؤولياتها في حياتها ومصائبها في دنياها، وسوءَ عواقبها في أُخراها!
وتقدّمت بَضعةُ المصطفى فاطمة الزهراء عليها السلام تدافع عن الولاية التي عيّنها الله تعالى في آياته الشريفة، وبلّغها الأمّةَ رسولُ الله صلّى الله عليه وآله في أحاديثه المُنيفة، فكان لها خطبتان بليغتان مليئتانِ بالحُجج البالغة، والبراهين الدامغة، حتّى جعلت هذه الأمّة على محكّ الامتحان الفيصل والاختيار المصيري، فَلمّا تسالم الناس على خلاف أمر الله ودعوة رسوله، كان الاعتزال، وكانت الشهادة خاتمةَ العمر، وقبلها كانت الوصيّة أن تُدفَن صلَواتُ الله عليها ليلاً لا نهاراً، وسِرّاً لا جِهاراً، وأن لا يحضَرَ جَنازتَها المقدّسةَ المخالفون ولا يُصلّوا عليها ولا يُشيّعوها، فكما غَبَنوها قَدْرَها، فَلْيُحرَموا قبرَها.
وتلك أخبار هذا الأمر روتها صفحات التاريخ، هي بين أيدينا.
مِن هذه الأخبار
1- قال أمير المؤمنين عليه السلام لأبي بكر وعمر بعد دفنه فاطمة عليها السلام ليلاً: «... وأمّا فاطمة، فهي المرأة التي استأذنتُ لكما عليها، فقد رأيتما ما كان من كلامها لكما، واللهِ لقد أوصَتْني أن لا تَحضُرا جَنازتَها ولا الصلاةَ عليها، وما كنتُ بالذي أخالف أمرَها ووصيّتَها إليّ فيكما » ( علل الشرائع للشيخ الصدوق:189 / ح 2 ـ الباب 149 ).
2-قال عبدالرحمن الشرقاوي في كتابه ( عليٌّ إمام المتّقين 70:1 ) في دفن فاطمة عليها السلام: فأسرع عليٌّ عليه السلام وجهّزها ودفنها بعد العِشاء سرّاً كما أوصت، وبكاها أحرَّ البكاء، ووقف على قبرها يقول:
لكلِّ اجتماعٍ مِن خَليلَينِ فُرقةٌ وكلُّ الذي دونَ المماتِ قليلُ
3-وقال ابن شهرآشوب في ( مناقب آل ابي طالب 363:3 ): إنّ أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام دفنوها بالليل وغيّبوا قبرها.
4- ورُوي عن الإمام الحسين عليه السلام أنّه قال: « لَمّا قُبِضت فاطمة عليها السلام دَفَنها أمير المؤمنين عليه السلام سِرّاً، وعفّى عليٌّ عليه السلام موضع قبرها » ( الكافي للكليني 458:1 / ح 3 ).
5- قال الشيخ الأُزري في هائيّته المشهورة:
نَقضُوا عهدَ أحمـدٍ فـي أخيـهِ وأذاقـوا البتـولَ مـا أشجاهـا
ولأيِّ الأمـورِ تُـدفَـنُ سِــرّاً بَضعةُ المصطفى ويُعفى ثَراها ؟!
وثَوَت لا يُرى لها الناسُ مَثْـوىً أيُّ قُـدسٍ يَضُمّـه مَثْـواهـا ؟!
6-وقال أبو جعفر الطوسي: الأصوَب أنّها مدفونة في دارها، أو في الروضة، يؤيّده قول النبيّ صلّى الله عليه وآله: « إنّ بين قبري ومِنبري روضةً من رياض الجنّة ». وعن أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن قبر فاطمة عليها السلام فقال: « دُفِنت في بيتها، فلمّا زادت بنو أُميّة في المسجد صارت في المسجد ». ( مناقب آل أبي طالب 365:3 ).
7-وروى الصدوق عن الإمام الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: « ما بين قَبري ومِنبري روضةٌ مِن رياض الجنّة، ومِنبري على تُرعةٍ مِن تُرَع الجنّة » ( معاني الأخبار:267، والتُّرعة: الروضة في مكانٍ مرتفع ).
8-وقال السيّد المرتضى: وتولّى غُسلَها وتَكفينها أميرُ المؤمنين عليه السلام، وأخرجها ومعه الحسن والحسين عليهما السلام في الليل وصلَّوا عليها، ولم يَعلَم بها أحد، ودفَنَها في البقيع وجدّد أربعين قبراً، فاستشكل على الناس قبرُها!
فأصبح الناس، ولام بعضهم بعضاً وقالوا: إنّ نبيَّنا صلّى الله عليه وآله خلّف بنتاً ولم نَحضُر وفاتَها والصلاةَ عليها ودَفْنَها، ولا نعرف قبرها فنزورها! فقال مَن تَولّى الأمر: هاتوا مِن نساء المسلمين مَن تنبش هذه القبور حتّى نجد فاطمةَ فنُصلّي عليها ونزور قبرها!
فبلغ ذلك أميرَ المؤمنين عليه السلام، فخرج مُغضَباً احمرّت عيناه، وقد تقلّد سيفَه ذا الفَقار، حتّى بلغ البقيع وقد اجتمعوا فيه، فقال: « لو نَبَشتُم قبراً من هذه القبور لَوَضعتُ السيف فيكم! » فولّى القومُ عن البقيع. ( عيون المعجزات ـ عنه: بحار الأنوار 212:13 / ح 41 ).
9-وقال الدهلوي في ( جذب القلوب ): إنّ في محلّ دفن سيّدةِ النساء عليها السلام أخباراً مختلفة، وأقوالاً متنوّعة: فقال بعض: إنّ قبرها في البقيع، وقال الآخر: إنّ محلّ دفنها بيتُها وصارت في المسجد. ورُوي عن الإمام الصادق عليه السلام: « إنّ فاطمة عليها السلام دُفِنت في بيتها، زاده عمرُ بن عبدالعزيز في المسجد، كما أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله دُفِن في بيتها. ( عنه: تاريخ الأحمدي:134 ).
10- وقال الشيخ المجلسي: الأظهر أنّها عليها السلام مدفونةٌ في بيتها، وقد قدّمنا الأخبارَ في ذلك، ولعلّ خبر ابن أبي عمير محمولٌ على توسعة الروضة بحيث تشمل بيتها، ويؤيّده ما تقدّم في باب زيارة النبيّ صلّى الله عليه وآله مِن خبرِ جميل، وفيه أنّ علامة القبر المعلومة الآن متأخّرةٌ عن قبره صلّى الله عليه وآله وليست في جهة الروضة، إلاّ أن يُقال: إن العلامة لا أصل لها، والقبر في جانب الروضة. ( بحار الأنوار 193:97 ).
11-وكتب السيّد ابن طاووس في ( الإقبال:623 ): روينا عن جماعةٍ من أصحابنا أنّ وفاة فاطمة الزهراء عليها السلام كانت يوم ثالثِ جُمادى الآخرة، فينبغي أن يكون أهل الوفاء محزونين في ذلك اليوم على ما جرى عليها من المظالم الباطنة والظاهرة، حتّى أنّها دُفِنت ليلاً، مُظهِرةً الغضبَ على مَن ظَلَمها وآذاها وآذى أباها صلوات الله عليه وعلى روحها الطاهرة.
وتُزار بما قدّمناه في كتاب ( جمال الأُسبوع ) عند حجرة النبيّ صلّى الله عليه وآله لِمَن حضر هناك، وإلاّ فتُزار مِن أيّ مكانٍ كان، وقد جمع كتاب ( المسائل وأجوبتها من الأئمّة عليهم السلام ) فيها ما سُئل عنه مولانا عليّ بن محمّد الهادي عليه السلام، فقال فيه: أبو الحسن إبراهيم بن محمّد الهمداني قال: كتبتُ إليه: إن رأيتَ أن تُخبرني عن بيت أُمّك فاطمة عليها السلام، أهيَ في طَيبة أو كما يقول الناس: في البقيع ؟ فكتب: هي مع جَدّي صلوات الله عليه وآله.
قلت أنا: وهذا النصّ كافٍ في أنّها عليها السلام مع النبيّ صلّى الله عليه وآله، فيقول ( أي الزائر ):
السلامُ عليكِ يا سيّدةَ نساءِ العالمين، السلامُ عليكِ يا والدةَ الحُجَجِ علَى الناسِ أجمعين، السلامُ عليكِ أيّتُها المظلومةُ الممنوعةُ حقُّها.
ثمّ قل: اَللّهمَّ صَلِّ على أَمَتِك، وابنةِ نبيِّك، وزوجةِ وصيِّ نبيِّك، صلاةً تُزْلِفُها فوقَ زُلفى عبادِك المُكْرَمين، مِن أهلِ السماواتِ والأرضين.
12-وكتب المحدّث الشيخ عبّاس القمّي في ( سفينة البحار ـ باب زيارة فاطمة عليها السلام وموضع قبرها ): الأظهر أنّها مدفونةٌ في بيتها، والأخبار بذلك كثيرة.
واينما يكون قبر سيدة نساء العالمين المظلومة فاطمة الزهراء عليها افضل الصلوات والتحيات والسلامات ..فأننا واقعاً نزور روحها الطاهرة قبل جسدها المبارك .
اَلسَّلامُ عَلَيْكِ يا مُمْتَحَنَةُ امْتَحَنَكِ الَّذى خَلَقَكِ فَوَجَدَكِ لِمَا امْتَحَنَكِ صابِرَةً اَنَا لَكِ مُصَدِّقٌ صابِرٌ عَلى ما اَتى بِهِ اَبُوكِ وَوَصِيُّهُ صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِما وَاَنَا أَسْأَلُكِ اِنْ كُنْتُ صَدَّقْتُكِ إلاّ اَلْحَقْتِنى بِتَصْديقى لَهُما لِتُسَرَّ نَفْسى فَاشْهَدى اَنّى ظاهِرٌ بِوَلايَتِكِ وَوَلايَةِ آلِ بَيْتِكِ صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِمْ اَجْمَعينَ.
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم