الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الأئمة والمهديين وسلم تسليماً
قال الله تعالى: { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً } الفرقان 30
ربما يتصور البعض أنهم يعطون القرآن حقه عندما يحملونه في الجيوب ويقرءونه للثواب وفي العزاء ويتخذونه عوذاً وأحرازاً !
وفي الحقيقة أن هذا التصور مجانب للصواب بل هو ظلم للقرآن الكريم بل من أقبح أنواع الظلم، لان العدل هو أن تضع كل شيء في مكانه المناسب وان تعطي لكل ذي حق حقه، نعم تلاوة القرآن وحمله ... بركة وثواب عظيم ، ولكن هذه الأمور ليست هي أهم ما في القرآن الكريم، بل القرآن الكريم دستور الهي لابد أن يتجسد في سلوك الأمة أخلاقاً وقانوناً وسياسة واقتصاداً ... الخ.
فالإمام علي (عليه السلام) يصف القرآن بقوله:
عن الحارث الأعور قال : دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقلت : يا أمير المؤمنين إنا إذا كنا عندك سمعنا الذي نسد به ديننا ، وإذا خرجنا من عندك سمعنا أشياء مختلفة مغموسة ، لا ندري ما هي ؟
قال : أو قد فعلوها ؟
قلت : نعم
قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول : أتاني جبرئيل فقال : يا محمد سيكون في أمتك فتنة
قلت : فما المخرج منها ؟
فقال كتاب الله فيه بيان ما قبلكم من خير ( خبر ) وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، وهو الفصل ليس بالهزل ، من وليه من جبار فعمل بغيره قصمه الله ، ومن التمس الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، لا تزيفه الأهواء ولا تلبسه الألسنة ، ولا يخلق عن الرد ، ولا تنقضي عجائبه ، ولا يشبع منه العلماء هو الذي لم تكنه الجن إذ سمعه أن قالوا : { إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد } من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم ، هو الكتاب العزيز ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) بحار الأنوار ج 89 - ص 24 – 25
وعن أبي عبد الله (عليه السلام): " ... وما عدل أحد عن القرآن إلا إلى النار " بحار الأنوار ج 89 - ص 26 – 27
إذن فالقرآن لا يحل محله شيء ولا يقارن به شيء أبداً، ولكن الناس اعتادت الإقبال على ممارسة الأعمال العبادية التي لا تكلفهم شيئاً أو التي لا تضر بدنياهم شيئاً، وأما ما يتوهمون انه يقيد حياتهم أو يكلفهم بعض التضحيات فتجدهم يمرون عليه مرور الكرام وكأنه لا يعنيهم وفي القلوب ما فيها
قال الله تعالى: { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ } محمد 20
بل لو فتشت هكذا أناس لوجدت صلاتهم وصيامهم .... مخلوط بالرياء وحب السمعة أو انه عادة اعتادوا عليها إن تركوها استوحشوا إليها !
وقد أخبر عن ذلك الإمام الباقر (عليه السلام) بقوله:
عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : يكون في آخر الزمان قوم يتبع فيهم قوم مراؤن يتقرؤن ويتنسكون حدثاء سفهاء لا يوجبون أمرا بمعروف ولا نهيا عن منكر إلا إذا أمنوا الضرر ، يطلبون لأنفسهم الرخص والمعاذير ، يتبعون زلات العلماء وفساد علمهم ، يقبلون على الصلاة والصيام وما لا يكلمهم في نفس ولا مال ، ولو أضرت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها كما رفضوا أتم الفرائض وأشرفها ، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض ، ...... إلى ان قال أبو جعفر (عليه السلام) : أوحى الله إلى شعيب النبي (عليه السلام) إني لمعذب من قومك مائة ألف أربعين ألفا من شرارهم وستين ألفا من خيارهم فقال يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار ! ؟ فأوحى الله عز وجل إليه إنهم داهنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي )
تهذيب الأحكام ج 6 - ص 180 – 181
فتجد بعض الأمة تقرأ القرآن وتحمله وتحفظه، ولكن لا تسعى إلى أن تضع القرآن دستوراً لها لا تتعداه إلى غيره، وفي الحقيقة أن هجر القرآن وعدم العمل بما فيه من أحكام وقوانين إنما هو هروب من حكمة الله تعالى وتدبيره وتربيته إلى شهوات النفس وملذات الدنيا وخطوات الشيطان، لان النفس ميالة بالطبع غالباً إلى التحلل عن كل قيد وخصوصاً أنفس المترفين والمترئسين وأتباعهم ومن انتهج نهجهم في كل مكان وزمان، فتجدهم يُقرون بألسنتهم بأن القرآن هو كتاب الله تعالى وهو المتكفل بسعادة البشرية كقانون وانه ... وانه ...، ولكن تجدهم يُنحونه جانباً عندما يضعون الدستور أو عندما يحكمون بين الناس أو عندما يتعارض مع أهوائهم.
فهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، ولو كانت قلوبهم معتقدة لما تنطقه ألسنتهم لما هجروا القرآن الكريم وعزلوه عن مسرح الحياة البشرية بالمرة وكأنه أنزل من الله تعالى لتستلذ الأسماع بتلاوته ... لا غير !
فتجد الذين يقرءون القرآن هكذا، لا يجاوز تراقيهم ويتفاخرون بحسن أصواتهم ودقتها في تلاوة القرآن ، وغفلوا عن جوهر القرآن ومعدنه
فـ ( كم من قارئ للقرآن والقرآن يلعنه ).
وقد روي أن في آخر الزمان يكون التغني بالقرآن وتكون قراءته لا تجاوز التراقي:
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " اقرأوا القرآن بألحان العرب وأصواتها ، وإياكم ولحون أهل الفسوق والكبائر، فإنه سيجئ بعدي أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانية، لا يجوز تراقيهم، قلوبهم مقلوبة، وقلوب من يعجبه شأنهم " الكافي ج2 ص614
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث - قال: " إن من أشراط الساعة إضاعة الصلوات، واتباع الشهوات، والميل إلى الأهواء. إلى أن قال: فعندها يكون أقوام يتعلمون القرآن لغير الله، ويتخذونه مزامير - إلى أن قال: ويتغنون بالقرآن. إلى أن قال: فأولئك يدعون في ملكوت السماوات: الأرجاس الأنجاس " الحدائق الناضرة ج 18 - ص 106
فسعادة الأمم دنيا وآخرة تتمثل باتباع حجج الله تعالى وتطبيق قانون السماء الذي أنزله الله في الكتب السماوية، وإلا فشقاء اليهود والنصارى إنما جاء من تحريفهم وهجرهم لكتب أنبيائهم واقتصارهم على قرائتها ودراستها وتدرسيها بما ينسجم مع ميولهم الدنيوية الرخيصة، قال الله تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ } المائدة 66
وكذلك أمة الإسلام، السبب الرئيس في تدهورها و وهنها وتكالب الأمم عليها هو هجرها للثقلين ( القرآن والعترة ) قال الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): " لتركبن أمتي سنة بني إسرائيل حذو القذة بالقذة وحذو النعل بالنعل شبراً بشبر وذراعاً بذراع وباعاً بباع " الاحتجاج ج 1 ص 113
فلا أدري ما العلة من عزل القرآن الكريم عن سياسة حياة البشر ؟!
فهل هو قاصر عن الإحاطة بمتطلبات الإنسانية في هذا الزمان ؟!
قال الله تعالى: { ... وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } النحل 89
أم انه نزل فقط للأمة التي كانت في حياة رسول الله (ص) ؟!
قال تعالى: { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } القلم1
{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } القلم107
فلا يبقى سبب لعزل القرآن عن سياسة حياة البشر غير الهوى وطلب الحياة الدنيا الدنيئة، والحق أن من يُنصِب نفسه مشرِّعاً ومقننِّاً بدل الله تعالى لا يختلف كثيراً عن مدعي الربوبية إن لم اقل انه عينه، والفرق هو أن هناك من ادعى الربوبية بلسان المقال وهنا ادعاء الربوبية بلسان الحال، لأنه لا يجوز لأحد التصرف في غير مملكته، والخلق والعالم مملكة الله تعالى وهو خالقهم فلا يجوز لأحد التصرف في هذه المملكة من غير إذنه تعالى.
ولذلك نجد الله تعالى قد وصف اليهود والنصارى بأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله تعالى عندما أطاعوهم في معصية الله تعالى:
عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } فقال:" والله ما صاموا لهم، ولا صلوا لهم، ولكن أحلوا لهم حراماً وحرموا عليهم حلالاً فاتبعوهم " وسائل الشيعة ج18 ص90
وكذلك لا يمكن لأحد أن يضع قانوناً للخلق إلا أن يكون عالماً بظاهرهم وباطنهم وجميع أسرار الكون، وإلا فربما ينظر إلى مصلحة من جانب معين ويغفل أهم الجوانب أو انه يتخيل المفسدة على أنها مصلحة، والمصلحة على أنها مفسدة !
فالرب هو المشرع والمقنن والمربي للخلق لأنه خالقهم والعالم بظاهرهم وباطنهم وبما يصلحهم ويفسدهم، فكل من يتطفل على هذا المقام فهو مدع للربوبية بلسان حاله وان لم يصرح بلسانه.
فهل يقبل صاحب مصنع ما أن يأتي شخص غريب ويتصرف في مصنعه ويضع القوانين وآليات العمل ... بحسب ما يراه ذلك المتطفل ؟!
والجواب معروف وبيِّن، وهذا على مستوى مصنع مهما كان صغيراً، فكيف بهذا العالم وما يحويه من خلائق وأهمها البشر؟ كيف يمكن لأحد أن يضع نفسه مشرعاً ومقنناً من غير إذن صاحب المملكة وخالقها ... ؟!!
قال الله تعالى: { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } الحجرات 16
وفي حالة كون صاحب المملكة وخالقها قد وضع لها قانوناً محكماً دقيقاً ويأتي ذلك المتطفل ليزيح هذا القانون جانباً ويستبدله بقانون من هواه، يكون الأمر أدهى وأمر !!!
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون والعاقبة للمتقين، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الأئمة والمهديين وسلم تسليماً كثيراً.
بقلم الشيخ ناظم العقيلي
منقول