اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كان الطفل الرضيع السيد حسين – من أهالي قرية القديح بمحافظة القطيف – و منذ ولادته يوم السبت 10/4/1425 هـ يعيش حياة طبيعية بصحة سليمة إلى أن أتم يومه الأربعين و ذلك يوم الأربعاء 20/5/1425هـ. ففي مساء ذلك اليوم بدأ السيد حسين بالصراخ و البكاء بصوت عال. في بداية الأمر حسبناه صراخاً عادياً كصراخ أي طفل في هذا العمر إلا أن ذلك الصراخ استمر إلى عصر يوم الخميس دون توقف إطلاقا. فذهبنا بالطفل إلى أحد مستشفيات المنطقة و بعد الفحص عليه لم يجد الطبيب ما يبرر هذا الصراخ المتواصل الغريب, فاحتمل أن يكون السبب غازات في بطنه ستزول في ساعات. لكن الوضع لم يكن كذلك فقد استمر ذلك الصراخ حتى مساء يوم الجمعة عندما غلب عليه النوم و كانت هذه أول ساعة يذوق فيها هذا الطفل طعم النوم منذ الأربعاء. عند ذلك قرت أعيننا و عين أمه السيدة العلوية التي ما فتأت تقرأ الأدعية و تتوسل بأهل البيت عليهم السلام اعتقادا منا أن الأمر قد انتهى. و لكن النوم استمر بشكل عميق حوالي 20 ساعة ذهبنا به خلالها إلى المستشفى فقال الأطباء أنه قد يكون ذلك نتيجة للتعب من الصراخ فرجعنا به إلى البيت. بعد ذلك زادت حالته سوءاً فدخل في غيبوبة و أصبح لا يفيق إلا لمدة ثوان ثم يغب ثانية في غيبوبته و لا يستجيب لأي تنبيه أو مناداة. فذهبنا بالطفل بداية إلى مستشفى الخليج التخصصي بالقطيف و بعد الفحوصات لم يكتشفوا السبب ثم ذهبنا به إلى مستشفى المانع بالدمام و بعد الفحوصات و تطبيق الأشعة بالرنين المغناطيسي فكانت هنا المفاجأة. فأخبرنا الأطباء أن الطفل يعاني من ضمور في أجزاء المخ الثلاثة (المخ و المخيخ و النخاع المستطيل). و أنهم لا يستطيعون التنبأ تحديداً بالمضاعفات المترتية على هذا الضمور فقد يشكو الطفل عند كبره من تخلف عقلي أو ضمور في الأطراف أو شلل جزئي أو غير ذلك فكل ذلك يظهر مع نمو الطفل. و أخبرنا الأطباء أنه ليس بمقدرتهم مساعدة الطفل بأي شيء فرجعنا به إلى البيت. و أخذت حالته تزداد سوءاً وبان عليه الضعف الشديد و رثة الحال. إلى أن عزمنا السفر و التوجه إلى الإمام الرؤوف ضامن الجنان الإمام الرضا عليه السلام. فتوجهنا به بداية إلى السيدة المعصومة عليها السلام يوم الأربعاء 25/6/1425هـ و كان في أسوأ حالاته و كأنه لفة قماش و كان مواصلاً لغيبوبته المتقطعة. مكثنا في ضيافة المعصومة 5 ليال بات خلالها السيد حسين في حرم المعصومة ع ليلتين و قد بدأنا نلاحظ عليه استعداداً للتحسن. و في مساء الإثنين 1/7/1425هـ توجهنا إلى مشهد المقدسة و مباشرة في الصباح الباكر من يوم الثلاثاء توجه به والده السيد شرف و والدته إلى الحرم الطاهر و انتظرت الأم عند بوابة غرفة الضريح المطهر و دخل به والده إلى الضريح الطاهر حاملاً الطفل على كتفه رغبة منه في الوصول بالسيد حسين لملامسة الضريح إلا أن الزحام الشديد حال دون ذلك. فرأى السيد شرف رجلاً متشحاً بالسواد واضعا يده على الضريح. فأشار إليه والد الطفل (و لم يكن يعرفه أعربي أم أعجمي) بأن يمسح بيده الممسكة بالضريح على رأس السيد حسين و كان عمره آنذاك شهرين و 21 يوماً. فما إن مسح ذلك الرجل بيده على رأس الطفل حتى انتفض جسم السيد حسين انتفاضة شديدة فأمسك به والده خوفاً عليه من السقوط. و منذ تلك اللحظة زالت كل أعراض الغيبوبة و عدم الوعي. و مكثنا في ضيافة الرضا ع اسبوعين تحسنت خلالها صحة الطفل تحسناً تاماً و استعاد السيد حسين جسمه النشيط و حيوية الأطفال من جديد. و بعد العودة إلى القطيف ذهبنا بصورة الأشعة و التقريرات الطبية من مستشفى المانع إلى مستشفى الولادة و الأطفال بالدمام عند د. عادل المؤمن استشاري أعصاب أطفال و بعد الفحص الإكلينيكي أكد لنا أن الطفل سليم تماماً من أي ضمور أو مرض. بعدها مارس السيد حسين حياته بشكل طبيعي تماماً ببركة الإمام الرضا ع و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين و صلى الله على محمد و آله الطاهرين
***************************
ابتسامة.. في غرفة العمليّات
لم تَهنَأ بنومٍ منذ عدّة لَيال. وإذا ما زارها النوم.. زارها على عَجَل، وسُرعانَ ما يُودِّع أجفانَها. فتحت عينَيها وهيَ تُحس بألم شديد في الرأس والعُنُق، وبجفافٍ في فمها جَعَل لسانها كالخَشَبة. استندت إلى يَدَيها، فنهضت.. وراحت تتجرّع قدحاً من الماء.
ملأت رائحةُ الكُحول الطبيّ مَشامَّها، فهَيمَن عليها مرّةً أخرى الآضطراب، وشعرت أن أحشاءها تكاد تَندَلِق من فمها! وعلى مَبعدةٍ منها في الناحية الأخرى كانت « صَبا » تنام هادئةً على السرير، وكأنّها مَلاكٌ صغير.
مَشَت « سَوسَن » إلى النافذة.. فخَطَّت بإصبِعها خَطّاً على البخار المُتكاثِف على صفحة الزجاجة. تَدَفَّقت في خاطرها ذكريات أيّام الطفولة: هي وأخوها « كامْبِيز » يَلْهُوان فَرِحَين ـ في دِفْءِ غرفتهما ـ برسمِ أشكال على زجاج النافذة التي تكاثَفَ عليها البخار. لم يكونا يعرفان شيئاً من هموم الدنيا. هَمَست مع نفسِها:
ـ كم كُنّا سُعَداء! إيه.. رَحِم اللهُ تلك الأيّام!
مَسَحَت المرأةُ جانباً من مُتكاثِف البخار.. فتراءت من وراء الزجاجةَ باحةُ المستشفى. كانت سُحُبٌ مُضيئة قد مَدَّت خيمةً وسيعة على فضاء المدينة تُنْبِئُ بهطولِ الثلج في الساعات القادمة. الأشجار العارية في حديقة المستشفى مغطّاة بالثلوج، وقطراتُ الثلج المتجمّدة المتلاحمة تمدّ خيطاً ثلجيّاً من المَيازيب حتّى يلامس الأرض البيضاء.
وَضَعت سوسنُ يَدَها على رقبتها، وضغطت موضع الألم. حرّكت رأسَها ذاتَ اليمين وذاتَ الشِّمال، ثمّ عادت لتجلس على الكرسيّ. نظرت إلى الساعة. كان الساعة الواحدة بعد مُنتَصَف الليل. تَمتَمَت هامسة:
ـ لابدّ أن حفلة الزواج قد بَلَغت نهايتَها..
ثمّ راحت تُحدّق في المجهول وهي تقول:
ـ تُرى.. كيف هو مَظهَرُ كامبيز في بدلة العرس ؟! طالما عَدَدتُ الأيّام بانتظار هذه اللحظة السعيدة. لكنْ.. واحَسْرَتاه!
كانت غُموم مرض « صَبا » تُثقِل قلبَ الأمّ، وكأنّه واقعٌ تحت ضغط حجارة متراكمة. إنّها الآن كطفلٍ يلتمس ذَريعةً لأن يبكي!.. وابتَلَّت عيناها بالدموع. أحسّت بالضيق يشتدّ في صدرها. إنّ شيئاً يأخذ بكَظْمِها.. شيئاً كاللُّقمة المُعترِضة في البلعوم! بدأ كَتِفاها بالاهتزاز.. وكانت قطرات من عينيها تتساقط على السرير.
ـ السيّدة محمّد زاده.. السيّدة محمّد زاده!
شعرت سَوسَنُ بدِفءِ كفٍّ تُوضَع على كَتِفها. رفعت رأسَها لتنظر من خلال عينين تغطّيهما غِشاوة من الدمع. لقد كانت مُمرِّضة القسم هي مَن نادَتها. قال الممرّضة: ـ السيّدة محمّد زاده.. عندك مُواجهة!
التَفَتَتِ المرأةُ إلى الخلف لتشاهد منظراً فاجأها وجعلها تقوم واقفة! عند باب الغرفة كان أخوها كامبيز وعروسه بثيابها البيضاء قد جاءا في ليلة زفافهما إلى المستشفى! لم تصدِّق ما رأته. ومن فورها احتضنت عروس أخيها، وهي تقول بدمعةٍ وابتسامةٍ:
ـ مباركٌ لكِ أيّتها العروس! مباركٌ لك!
قالت الممرِّضة لكامبيز وهي تَهِمُّ بالذَّهاب:
ـ السيّد محمّد زاده.. عندكم عشر دقائق لتغادروا الغرفة!
وقف الثلاثة حول سرير صَبا. ناداها خالُها كامبيز برقّة: ـ صبا.. عزيزتي!
قالت الأمّ: ـ نامت بعد تزريقها بالمُسكِّن.
التفت كامبيز إلى أخته يسألها: ـ وما كانت النتيجة ؟
قالت سَوسَن وهي تحدّق في الأرض:
ـ أخذوا تحاليل مفصّلة. التصوير الملوّن والتصوير التلفزيونيّ أظهَر أن حالِبَها قصير.
لا تُفْرِغ كُليَتُها الإدرارَ إفراغاً كاملاً. الإدرار يعود مرّة ثانية إلى الكُلْية.. ولذلك أُصيبَت كُليتها بالضرر.
ـ أمَا كتبوا لها دواء ؟
ـ الدواء في مثل هذه الحالة لا يفيد.
ـ إذَن.. ما العمل ؟
ـ قالوا: لابدّ من عمليّة جراحيّة.
سأل كامبيز: ـ والآن.. ماذا تريدين أن تفعلي ؟
قالت سَوسَن وقد لاح في نظرتها المنكسرة بَريقٌ من الرجاء البعيد: ـ آخذُها إلى مشهد، لعلّ الله يَمُنّ علينا بِجاه الإمام الرضا وتُشفى ابنتي.
انكسر قلب الأمّ وتَغَرغَرَت عيناها وهي تواصل حديثها: ـ طفلتي عمرها خمس سنوات فقط! لا طاقة لها على سِكّين الجرّاح..!
ثمّ سالت دموعها على الوجنتين.
صبا وأمّها وأبوها جالسون عند النافذة الفولاذيّة ينتظرون. إنّهم بانتظار عطيّة سماويّة تأتيهم بالفَرَج. بانتظار حُضورٍ أخضرَ يغمرهم بالبُشرى، فيحوّل البؤسَ هناءً ويُبدّل الشقاء سعادة.
كانت الأمّ عند النافذة تقرأ القرآن. وصلت في قراءتها إلى.. « لَقَد خَلَقْنا الإنسانَ في كَبَد »، فغَمَرت عينيها الدموع، ولم تستطع مواصلة القراءة. أغلقت المصحف، وأطبقت أجفانَها. وكانت أصوات الزوّار في مناجاتهم وضراعاتهم تَسري في شرايينها. وغَطّت حبّاتٌ من العرق وجهَها على الرغم من برودة الجوّ.
رفعت المرأة بصرها إلى السماء، وقالت بنبرةٍ مرتجفة: ـ إلهي.. أرجوك. يجب أن نَرجِع، فلا تَجعَلْنا نَرجِع صِفرَ اليدين!
قال زوجها محمّد: ـ خلال هذه الأيّام لم نحصل على إشارة من الإمام. لعلّ المصلحة أن تُجرى العمليّة لصَبا، وعلينا أن نسلّم لمشيئة الله يا سَوسَن.
تهيّأت سَوسَن ومحمّد للوداع والعَودة إلى طهران. ودّعا الإمام بأهدابٍ ماطرة. كان البرق يُضيء في ناحية من السماء ويغيب في الناحية الأخرى. وتدَاخَلَت الغيوم متشابكة، فأعقبَتها زخّة شديدة من المطر. كان المطر ينهال على أرض الصحن الرخاميّة ليعلو لانهياله رَجْعُ صدى.. كأنّما كانت السماء تواسي قلبيهما الجريحَين.
اكتملت إجراءات التحضير للعمليّة الجراحيّة. تناول الطبيب الصور التي أُخِذَت حديثاً ليتفحّصها قبل البدء بالعمليّة. كان الأبَوان يًرقُبانهِ بعيونٍ قلقة حينما سَمِعاه يَهمِس مع نفسه: ـ يعني.. ماذا ؟!
ألقى نظرة على الأبَوَين، ثمّ عاود النظر إلى إحدى الصور. وبعد لحظات التَفَتَ اليهما وقد عَلَت شفَتَيه ابتسامة مبهمة. قال:
ـ لا علامة على مرض ابنتِكما. ابنتُكما سليمة.. سليمة!
فَغَر الأبوان فَمَيهما مُندَهِشَين. وقال الطبيب وهو يمضي إلى غرفة العمليّات:
ـ يبدو أنّ كلّ شيء جاهز الآن. سنقوم في غرفة العمليّات بفحص داخل مثانة صبا وكليتها لنتأكّد من سلامتها.. سنتأكّد.
.. ومرّت الدقائق شديدة الوطأة، كأنّها قطار طويل يجرّ عرباتهِ المتعاقبة ببطءٍ يُرهق الأعصاب. وكان الخوف والرجاء يصطرعان في قلب الأمّ والأب.
وبعد انتظارٍ عسير، سَمِعا صوتَ حركة تقترب.. وانفتح بابُ غرفة العمليّات! انخلع قلب الأم، وهُرِع الأبُ بخطواتٍ متعجّلة نحو الطبيب. بادره الطبيب قائلاً:
ـ السيّد بيرامي، حالةُ صغيرتك مُرْضِية. لم نَجِد أيَّ علامةٍ للمرض. لقد عُوفيَت صبا عافيةً كاملة!
غَزا الأبوَينِ فجأةً آهتياجٌ جامح. إرتَبَكا.. ولم يَدرِيا ما يقولان. إنّهما الآن يَرَيان الحياة طافحة بالمباهج والأفراج. وماجَت في الهواء من حولهما رائحة بكاء. من مكانهما تَوجّها إلى جهة خراسان، وراحت تتدافع من قلبيهما أزهار التحيّة والامتنان. وشعرا أنّهما مَدِينان من العُمق للإمام الرضا عليه السّلام.
وفي هذه الأثناء.. خرجت من غرفة العمليات ابتسامةٌ بريئة مشرقة، كانت ترتسم على شفتَي « صَبا » المُعافاة.
و صلى الله على محمد و آله الطاهرين
نسألكم الدعاء