اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
- الصورة الثالثة:
(قطوفها دانية) (الحاقة/ 23)، صورة فنية رائعة تأخذ محلّها من القلب المتفتّح، والعقل المنفتح شاءَ أم أبى، لأننا نشاهد – كمثال – في حياتنا الدنيا، أن أصحاب الأذواق السليمة، لا يختلفون أنّ شجرة جميلة خضراء، توزّعت الثمار على أغصانها، سوف لا تسحر الإنسان، ولا تلقي به في شباك جمالها الأخّاذ، فتراه يرغب بالجلوس تحتها، وعلى أغصانها، وأن يكون قريباً منها دائماً وأبداً. فالشجرة المثمرة تأخذ بمجامع القلوب خصوصاً إذا كانت تلك الثمار (دانية) فالصورة المتقدمة خالية من الحركة، لأنّها تحكي قصة مشهد من مشاهد النعيم في الجنّة لذلك المؤمن الذي هو (... في عيشة راضية) (في جنة عاليةٍ) قطوفها دانية)، فاللقطة هنا لشجرة "ثمارها قريبة التناول، يأخذها الرجل كما يريد إن أحب"، فهي صورة ساكنة لشجرة أثقلت أغصانها بالثمار، فجعلتها دانية أي قريبة، يتناول الإنسان من ثمارها دون عناء، وفي كل ذلك جمال، ولكنّه على لوحةٍ جدارية...!
- الصورة الرابعة:
(وجوهٌ يومئذٍ ناعمة) (الغاشية/ 8)، جمالٌ وجلال، وهيبةٌ وكمال، يرتسم أما عينيك وأنت تتطلع هذه الوجوه، فتشتاق النفس الإنسانية أن تكون منها، وتتمنّى أن تتصف بصفاتها، إذ هي (ناعمة)، وما أدراك ما الوجوه الناعمة...؟ ثمّ ما أدراك ما الناعمة...؟ إنها لقطة لوجوهٍ "ذات نظرةٍ وبهجةٍ وحسن"، إنها مرآة تعكس لنا صور وجوهٍ "ناعمةٍ ناضرةٍ ضاحكةٍ مستبشرةٍ مبيضةٍ"، إنها باختصار صورة صغيرة، لكنها اختزلت لنا في داخلها معاني كبيرة، فالعدسة القرآنية، لم تلتقط هذه الصورة للوجوه بما هي وجوه، وإنما التقطتها لها، بما هي (وجوهٌ ناعمة)، فجمال الصورة ساكنٌ وقّار، ولكنه متحرّك للفظة ناعمة.
إنّها كلمة واحدة، ولكنك ترى فيها نعيم الجنّة بكل أبعاده، فالناعمة من الوجوه مورد لهيام الإنسان في الحياة الدنيا، يقول السيّد حيدر الحلّي:
مَنْ رأى خدّيكِ قال العجبُ **** كيفَ في الماءِ يشعُّ اللهبُ
وهذا الأمر لا ينكر جماليته من يمتلك أدنى مستوى من سلامة الذوق، وحياتنا المعاصرة أكبر شاهد على ذلك، لأننا نرى الملايين من المساحيق والدهون تصنع هذه الأيّام، والغاية منها نعومة الوجه، ويا ليتها نعومة باقية، بل هي زائلة بزوالِ مؤثرها، أمّا تلك التي رصدتها العدسة القرآنية، نعومة مشخّصة باقية بكلا بعديها، حيث النعمة وآثارها على تلك الوجوه (تعرف في وجوههم نضرة النعيم) (المطففين/ 24)، وحيث اللطافة والحسن والرقّة، التي ما غفل عنها جمال هذه الصورة الرائعة.
- الصورة الخامسة:
(في سدرٍ مخضود * وطلحٍ منضود) (الواقعة/ 28-29)، يا له من جمالٍ باهر، وسرٍ آسر، وكيف لا يكون كذلك وهو كلام "جميل يحبّ الجمال"، إنّ المصوّر المبدع جعل الإطار في هذه الصورة واحداً، وأعطاه قيمة جمالية عالية، حينما ملأهُ بصورتين جميلتين، لمنظرين مختلفين هما "شجرة النبق" و"شجرة الموز"، وهذا المعنى يكاد يتّفق عليه المفسّرون، فالصورة الملتقطة ناظرة إلى المخضود من السدر، أي "مكسور الشوك"، وإلى المنضود من الطلح، أي الذي "ركب بعضه بعضاً"، فالجمال خالٍ من الحركة، ولكنّ النفس تنجذب إليه على إستقراره، وكشاهد على ذلك، نلاحظ أنّ فاكهة الموز، اتخذت شكلاً جمالياً لنفسها يفتن العقول وتمثّل في أمرين: الأوّل: الجمال الظاهري، الذي يشع من خلال اللون الأصفر للقشر الخارجي من جسمه، ومن جهةٍ ثانية الإتحاد الذي جعل أفراد هذه الفاكهة متراصفة متماسكة ينتمي بعضها لبعض الآخر بقوّة، الأمر الثاني: الجمال الداخلي الذي يحسّ به الإنسان من خلال الطعم اللذيذ لهذه الفاكهة. عودٌ على بدء، فالقرآن الكريم لا يحدثنا عن "الموز" والنبق" بما هما فاكهتان، وإنما يعرض الصورة لشجرتين، في كل واحدةٍ منهما إثارة، حيث الأولى (السدر المخضود) خالية من الشوك، والثانية (الطلح المنضود) رصّف الثمار فيها بشكلٍ بديع وجميل ومن دون تدخل لليد البشرية في ذلك.
الإثارة الأخرى التي يطرحها المفسّرون بخصوص هاتين الآيتين (في سدر مخضود * وطلح منضود)، ناظرة إلى جمال آخر – إضافة إلى جمال الثمار – وهو جمال الأوراق التي "يجمعها نوعان: أوراق صغار، وأوراق كبار، فالسدر في غاية الصغر، والطلح – وهو شجر الموز – في غاية الكبر"، من ذلك كله نفهم أنّ الجمال متداخل، في طريقة عرض الثمار، وألوانها وأوراق تلك الأشجار وأحجامها، والأملس من سيقانها، وفي كلا الصورتين جمال ساكنٌ لكنّه ممتع، ولا ينتهي الجمال بهذه المرحلة، فلو تتبعنا سياق الآيات اللاحقة، لوجدنا فيها تجانساً جميلاً جدّاً، فالشجرتان المتقدمتان هما لأصحاب اليمين، وبعبارة أوضح لأهل الجنّة، والآيات التي بعدها، تحمل لنا صورة لشجرةٍ أخرى، ولكنها لأصحاب الشمال أي لأهل النار، يقول تعالى: (لآكلون من شجرٍ من زقُّوم) (الواقعة/ 52)، إنها صورة لشجرةٍ يخدش لفظها المشاعر، إنّها شجرة الزقّوم، التي تعد "شجرة غبراء صغيرة الورق مدوّرتُها لا شوك لها ذفرة مُرّة". ولهذا تشترك الأشجار الثلاثة "شجرة النبق" و"شجرة الموز" و"شجرة الزقُّوم" بخصلةٍ واحدةٍ، وهي أنها مخضودة من الشوك، وهذا جمال هامد ما غفلته الصورة الملتقطة هاهنا.
- الصورة السادسة:
(حورٌ مقصوراتٌ في الخيام)... (لم يطمثهنّ إنسٌ قبلهم ولا جان) (الرحمن/ 72-74)، الصور الجمالية التي التقطتها العدسة القرآنية "للحور" متعددة ومتنوّعة ومتخذة أساليب خاصة في الترغيب، (متكئين على سررٍ مصفوفة وزوّجناهم بحورٍ عين) "الطور/ 20)، فهذه لقطة ركّزت العدسة فيها على نقطة هي غاية في الإثارة، لأنّ هذه الحور "عِين" أي وكما يقول ابن عباس (رض): "عظام الأعين، حسان الوجوه" ومن هذا نفهم أنّ النقطة التي رصدتها العدسة هي "سعة العين"، ولا يخفى ما لسعة العين من إثارة في حياتنا الدنيا، فضلاً عن تلك العيون الواسعات الساحرات التي تحملها وجوه تلك الحور العين.
وعلى صعيد آخر نرى أنّ القرآن الكريم، حدّثنا عن "حور عين" لكن من طرازٍ آخر، حيث التركيز على المشبّه به (كأمثال اللؤلؤ المكنون) (الواقعة/ 23)، والمكنون من اللؤلؤ هو "المصون الذي لم يتعرض للمسّ والنظر، فلم تثقبه يد، ولم تخدشه عين...!". فآية (وحورٌ عين) تتبعها مباشرة آية (كأمثال اللؤلؤ المكنون)، فالقرآن الكريم يرغبنا بالحور ولكن ضمن ثغارات متعددة، فحور لها عيون واسعة، وحور لم تطلها يد، فهي كاللؤلؤ المكنون، وحور أخريات تحدّثنا عنها هذه الصورة (حورٌ مقصورات في الخيام) أي "قصرن في أماكنهنّ، والنساء تمدح بذلك، إذ ملازمتهنّ البيوت تدلّ على صيانتهنّ"، فالجمال الظاهر للخيام، ومفردها خيمة، وكيف أنها رصفت بشكل منظم وجميل، وجمال باطن يكمن في الحور المصونات، اللواتي لا نصيب لغير أزواجهنّ فيهنّ، وهاهنّ داخل هذه الخيام، وجمال ثالث داخل هذه الحور، أفصحت عنه الآية الكريمة: (لم يطمثهنّ إنسٌ من قبلهم ولا جان) ومعنى ذلك "لم يمسسهنّ بالنكاح إنس ولا جان قبل أزواجهنّ"، فالبكارة جمال معنوي – وقد أشار إليه القرآن الكريم في مكانٍ آخر: (فجعلناهُنّ أبكارا) (الواقعة/ 36)، لما فيها من الترغيب – داخل الحور العين، وهذا جمال مادي داخل الخيام، والخيام بمجموعها وبمنظرها الخارجي، جمال ثالث يضفي على الجمالين بعداً تستأنس له النفوس، ولو قدّر لنا أن نشيّد للجمال عمارة بطوابقها الثلاث، لما تخطّينا هذه الآية، إلا أنّ هذا الجمال بكل تفاصيله جامد غير متحرك، ولكنه يستهوي القلوب، ويحرّك الإنسان نحو العمل الصالح، كي يرى بأم عينه، جمال تلك الخيام، وجمال المرابطات فيها، وجمال طهارتهنّ التي ما أغفلتها اللوحة المرسومة على صفحات القرآن الكريم...!