الآيتــان
{يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمُ وَإِن تَسْئَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ101 قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثمّ أَصْبَحُوا بِهَا كَـفِرِينَ102}
سبب النّزول
الأقوال في سبب نزول هاتين الآيتين مختلف في مصادر الحديث والتّفسير، ولكن الذي ينسجم أكثر مع سبب نزول هاتين الآيتين، هو ما جاء في تفسير «مجمع البيان» عن علي بن أبي طالب(عليه السلام) قال: خطب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: «إِنّ الله كتب عليكم الحج» فقام عكاشة بن محصن وقيل سراقة بن مالك فقال: أفي كلّ عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه حتى عاد مرّتين أو ثلاثاً، فقال رسول الله: «ويحك ما يؤمنك أن أقول: نعم، والله لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم، فاتركوني كما تركتكم، فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإِذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه»
ينبغي ألا يظن أحد بأن سبب نزول هاتين الآيتين ـ كما سنتطرق إِلى ذلك في تفسيرهما ـ يعني غلق أبواب السؤال وباب تفهم الأُمور بوجوه الناس، لأنّ القرآن في آياته يأمر الناس صراحة بالرجوع إِلى أصحاب الخبرة في فهم الأُمور: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) بل المقصود هو الأسئلة التافهة والتحجج، والإِلحاح المؤدي غالباً إِلى تشويش أفكار الناس وقطع التسلسل الفكري للخطيب.
التّفسير
الأسئلة الفضولية: لاشك أنّ السّؤال مفتاح المعرفة، ولذلك من قلّت أسئلته قلت معرفته، وفي القرآن وفي الرّوايات الكثير من التوكيد على الناس أن يسألوا عمّا لا يعرفون، ولكن لكل قاعدة استثناء، ولهذا المبدأ التربوي الأساس استثناءاته أيضاً، منها أن هناك أحياناً بعض المسائل التي يكون إِخفاؤها أفضل لحفظ النظام الإِجتماعي ولمصلحة أفراد المجتمع، ففي أمثال هذه الحالات لا يكون الإِلحاح في السؤال عنها والسعي لكشف النقاب عن حقيقتها بعيداً عن الفضيلة فحسب، بل يكون مذموماً أيضاً مثلا:
يرى معظم الأطباء ضرورة كتمان الأمراض الصعبة الشفاء والمخيفة عن المريض نفسه، وقد يخبرون أهله شريطة أنّ يلتزموا كتمان الأمر عن المريض، والسبب هو أن التجارب قد دلت على أنّ المريض إِذا عرف أنّ مرضه لا يشفى بسرعة انتابه الرعب والهلع وقد يؤخر ذلك شفاءه، إِن لم يكن مرضه مهلكاً فعلى المريض أنّ لا يلح في القاء الأسئلة على طبيبه العطوف، لأنّ هذا الإِلحاح قد يحرج الطبيب، فيصرّح للمريض بما لا ينبغي أنّ يصارحه به تخلصاً من هذا الإِصرار واللجاج.
كذلك الناس عموماً، فهم في التعامل فيما بينهم يحتاجون إِلى أن يحسن بعضهم الظن ببعض، فللحفاظ على هذا الرصيد الهام، خير لهم ألاّ يعرفوا خفايا الآخرين، إِذ أن لكل امرىء نقاط ضعيفه، فانكشاف نقاط ضعف الناس يضرّ بالتعاون فيما بينهم فقد يكون امرؤ ذو شخصية مؤثرة قد ولد في عائلة واطئة ومنحطة، وإِذا انكشف هذا فقد تتزلزل آثاره الوجودية في المجتمع، لذلك ينبغي على الناس ألا يلحوا في السؤال والتفتيش في هذا المجال.
كما أنّ الكثير من الخطط والمناهج الإِجتماعية يلزمها الكتمان حتى يتمّ تنفيذها، فالإِعلان عنها يعتبر ضربة تؤخر سرعة إِنجاز العمل.
هذه وأمثالها نماذج لما لا يصح فيه الإِلحاح في السؤال، وعلى القادة أن لا يفشوا أمثال هذه الأسرار ما لم يقعوا تحت ضغط شديد.
والقرآن في هذه الآية يشير إِلى الموضوع نفسه ويقول: (يا أيّها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إِن تبد لكم تسؤكم).
ولكن الحاح بعض الناس بالسؤال من جهة، وعدم الإِجابة على أسئلتهم من جهة أُخرى، قد يثير الشكوك والريب عند الآخرين بحيث يؤدي الأمر إِلى مفاسد أكثر، لذلك تقول الآية: (وإِن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم) فيشق عليكم الأمر.
أمّا قصر افشائها على وقت نزول القرآن، فذلك لأنّ تلك التساؤلات كانت متعلقة بمسائل ينبغي أن تنزل أجوبتها عن طريق الوحي.
ثمّ لا تحسبوا الله غافلا عن ذكر بعض الأُمور إِن سكت عنها، فقد (عفا الله عنها والله غفور حليم).
يقول علي(عليه السلام): «إِنَّ الله افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها، وحدّ لكم حدوداً فلا تعتدوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسياناً فلا تتكلفوها».
سؤال:
قد يسأل سائل: إِذا كان إِفشاء هذه الأُمور يتعارض مع مصلحة الناس، فلماذا يماط اللثام عنها على أثر الإلحاح؟
الجواب:
السبب هو ما قلناه من قبل، فالقائد إِذا لزم الصمت رغم الإِلحاح بالسؤال، فقد تنجم عن ذلك مفاسد أخطر، ويثار سوء ظن يشوب أذهان الناس، مثل صمت الطبيب إِزاء الحاح المريض في السؤال عن مرضه، فإن ذلك يثير شكوك المريض، وقد يحمله على الظن بأن الطبيب لم يشخص مرضه بعد، فيهمل استعمال ما يصفه له من علاج، عندئذ لا يسع الطبيب إِلاّ أن يفشي له سرّ مرضه، ولو سبب له ذلك بعض المشاكل.
الآية التي بعدها تؤكّد هذه الحقيقة، وتبيّن أنّ أقواماً سابقين كانت لهم أسئلة كهذه، وبعد أن سمعوا أجوبتها خالفوها وعصوا: (لقد سألها قوم من قبلكم ثمّ أصبحوا بها كافرين).
وللمفسّرين أقوال مختلفة بشأن تلك الأقوام، منهم من ذهب إِلى أن الأمر يخص تلامذة عيسى(عليه السلام) عندما طلبوا مائدة من السماء، فعندما تحقق لهم ما أرادوا عصوا، ويقول بعض: إِنّها حكاية مطالبة النّبي صالح(عليه السلام) بمعجزة، ولكن الظاهر أن هذه الإِحتمالات بعيدة عن الصواب، لأنّ الآية تتحدث عن «سؤال» عن مجهول يراد الكشف عنه، لا عن «طلب» شيء، ولعل استعمال كلمة «سؤال» في كلا الحالين هو سبب هذا الخطأ.
قد تكون تلك الأقوام من بني إِسرائيل أمروا بذبح بقرة للتحقيق في أمر جريمة (انظر شرح ذلك في المجلد الأوّل من هذا التّفسير) فراحوا يمطرون موسى بالأسئلة عن خصائص البقرة ومميزاتها ممّا لم يكن قد نزل بشأنها أي شيء، ولكنّهم بسؤالاتهم المتكررة التي لم تكن ضرورية أخذوا يشقون على أنفسهم، بحيث أن العثور على تلك البقرة الموصوفة أصبح من الصعوبة بمكان وتحملوا الكثير من النفقات في سبيل ذلك، حتى كادوا أن ينصرفوا عن التنفيذ.
في تفسير قوله تعالى (وأصبحوا بها كافرين) إحتمالان:
الأوّل: أنّ المقصود بالكفر هو العصيان، كما سبقت الإِشارة إِليه.
والثّاني: هو أنّ الكفر قصد بمعناه المعروف، وذلك لأن سماع الإِجابات المزعجة التي تثقل على السامع قد تدفع به إِلى إِنكار أصل الموضوع وصلاحية المجيب، كأن يسمع مريض جواباً لا يروقه من طبيبه، فيؤدي ردّ الفعل به إِلى إِنكار صلاحية الطبيب واتهامه بعدم الفهم مثلا أو بالهرم ونسيان المعلومات.
في ختام هذا البحث نجد لزاماً أن نكرر ما قلناه في بدايته، وهو أنّ هذه الآيات لا تمنع أبداً القاء الأسئلة المنطقية التربوية والبناءة، بل تتحدد بالأسئلة التي لا لزوم لها، وبالتعمق في أُمور لا ضرورة للتعمق فيها والتي من الأفضل بل من اللازم ـ أحياناً ـ بقاؤها في طي الكتمان.
* * *
الأمثــل