اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
5- تحريره للعبيد
من الظواهر اللاَّفتة حقّاً في حياة الإمام زين العابدين عليه السلام, هي علاقته بهذه الطبقة الضعيفة من أبناء المجتمع آنذاك، وهم العبيد والإماء, فقد كان يهتمّ بشرائهم وتربيتهم ثمّ عتقهم.
قال بعض الباحثين:...فهو يشتري العبيد لا لحاجة إليهم, ولكن ليعتقهم, وقالوا: إنّه أعتق مئة ألف".
ويقول أيضاً: ..وعرف العبدان ذلك، فباعوا أنفسهم له, واختاروا وتفلّتوا من أيدي السادة ليقعوا في يده, وجعل الدولاب يسير, والزمن يمرّ, وزين العابدين يهب الحريّة في كلّ عامّ, وكلّ شهر, وكلّ يوم, وعند كلّ هفوة, وكلّ خطأ, حتّى صار في المدينة جيش من الموالي الأحرار, والجواري الحرائر, وكلّهم في ولاء زين العابدين, قد بلغوا خمسين ألفاً أو يزيدون 26.
ويصف الإمام الصادق عليه السلام جانباً من تعامله الإنسانيّ والمميّز مع هذه الشريحة الاجتماعيّة، إذ يقول: " كان عليّ بن الحسين إذا دخل شهر رمضان لا يضرب عبداً له ولا أمة، وكان إذا أذنب العبد والأمة يكتب عنده أذنب فلان، أذنبت فلانة يوم كذا وكذا، ولم يعاقبه فيجتمع عليهم الأدب, حتّى إذا كان آخر الليلة من شهر رمضان، دعاهم وجمعهم حوله، ثمّ أظهر الكتاب، ثمّ قال: يا فلان فعلت كذا وكذا، ولم أؤدّبك، أتذكر ذلك؟ فيقول: بلى يا بن رسول الله، حتّى يأتي على آخرهم فيقرّرهم جميعاً.
"ثمّ يقوم وسطهم، ويقول لهم: ارفعوا أصواتكم، وقولوا: يا عليّ بن الحسين، إنّ ربّك قد أحصى عليك كلّما عملت, كما أحصيت علينا كلّما عملنا، ولديه كتاب ينطق عليك بالحقّ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ممّا أتيت إلّا أحصاها، وتجد كلّما عملت لديه حاضراً، كما وجدنا كلّما عملنا لديك حاضراً، فاعف واصفح كما ترجو من المليك العفو، وكما تحبّ أن يعفو المليك عنك، فاعف عنّا تجده عفوّاً، وبك رحيماً، ولك غفوراً، ولا يظلم ربّك أحداً، كما لديك كتاب ينطق علينا بالحقّ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ممّا أتيناها إلّا أحصاها, فاذكر يا عليّ بن الحسين ذلّ مقامك بين يدي ربّك، الحكم العدل الذي لا يظلم مثقال حبّة من خردل، ويأتي بها يوم القيامة، وكفى بالله حسيباً وشهيداً، فاعف واصفح يعفُ عنك المليك، ويصفح، فإنّه يقول:﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ 27.
"قال: وهو ينادي بذلك على نفسه ويلقّنهم، وهم ينادون معه، وهو واقف بينهم يبكي وينوح، ويقول: ربّ إنّك أمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا، فقد ظلمنا أنفسنا، فنحن قد عفونا عمّن ظلمنا، كما أمرت، فاعف عنّا فإنّك أولى بذلك منّا ومن المأمورين، وأمرتنا أن لا نردّ سائلاً عن أبوابنا، وقد أتيناك سؤّالاً ومساكين، وقد أنخنا بفنائك وببابك، نطلب نائلك ومعروفك وعطاءك، فامنن بذلك علينا، ولا تخيّبنا، فإنّك أولى بذلك منّا ومن المأمورين، إلهي كرمت فأكرمني، إذ كنت من سؤّالك، وجدت بالمعروف فاخلطني بأهل نوالك يا كريم.
"ثمّ يقبل عليهم، فيقول: قد عفوت عنكم فهل عفوتم عنّي ممّا كان منّي إليكم من سوء مِلكة، فإنّي مليك سوء، لئيم ظالم، مملوك لمليك كريم جواد عادل محسن متفضّل، فيقولون: قد عفونا عنك يا سيّدنا، وما أسأت, فيقول لهم: قولوا: أللَّهم اعف عن عليّ بن الحسين كما عفا عنّا، وأعتقه من النّار كما أعتق رقابنا من الرقّ، فيقولون ذلك، فيقول: أللَّهم آمين، يا ربّ العالمين، اذهبوا فقد عفوت عنكم، وأعتقت رقابكم، رجاءً للعفو عنّي وعتق رقبتي، فيعتقهم.
" فإذا كان يوم الفطر، أجازهم بجوائز تصونهم وتغنيهم عمّا في أيدي الناس، وما من سنّة إلّا وكان يعتق فيها آخر ليلة من شهر رمضان، ما بين العشرين رأساً إلى أقلّ أو أكثر. وكان يقول: إنّ لله تعالى، في كلّ ليلة من شهر رمضان عند الإفطار، سبعين ألف ألف عتيق من النّار، كلّاً قد استوجب النّار، فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق فيها مثل ما أعتق في جميعه، وإنّي لأحبّ أن يراني الله، وقد أعتقت رقاباً في ملكي في دار الدنيا، رجاء أن يعتق رقبتي من النّار. وما استخدم خادماً فوق حول، كان إذا ملك عبداً في أوّل السنة أو في وسط السنة، إذا كان ليلة الفطر أعتق واستبدل سواهم في الحول الثاني، ثمّ أعتق، كذلك كان يفعل حتّى لحق بالله تعالى، ولقد كان يشتري السودان وما به إليهم حاجة، يأتي بهم إلى عرفات، فيسدّ بهم تلك الفرج والخلال، فإذا أفاض، أمر بعتق رقابهم، وجوائز لهم من المال "28.
ومن ذلك ما روي، أنّ جارية لعليّ بن الحسين جعلت تسكب عليه الماء ليتهيّأ للصلاة، فنعست فسقط الإبريق من يد الجارية فشجّه، فرفع رأسه إليها، فقالت له الجارية: إنّ الله يقول: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾، قال : "قد كظمت غيظي", قالت: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾، قال لها: "عفا الله عنك", قالت: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾29 , قال: "اذهبي فأنت حرّة"30 .
وقد كان ينادي أحدهم: "يا بنيّ", ويحنّ عليهم، ويرأف بهم، حتّى صاروا يأمنونه. فقد روي أنّه عليه السلام دعا مملوكه مرّتين، فلم يجبه, ثمّ أجابه في الثالثة، فقال له: "يا بنيّ، أما سمعت صوتي"؟ قال: بلى، قال: "فما بالك لم تجبني"؟ قال: أمنتك، قال: "الحمد لله الذي جعل مملوكي يأمنّي"31.
لقد كان من نتيجة هذه التعاطي الخاصّ منه عليه السلام, أن صار الموالين يعتبرون أهل البيت هم المثل الأعلى للإنسان وللإسلام, وكانوا مستعدّين للوقوف إلى جانبهم في مختلف الظروف.
هذا في الوقت الذي يمثّل إدانة لمنطق الأمويّين، القائم على أساس تفضيل العربيّ على غيره، وإعطائه كلّ الامتيازات, وحرمان غيره منها بكلّ صورة, واعتباره أذلّ وأحقر من الحيوان، حتّى كان يقال: لا يقطع الصلاة إلّا كلب أو حمار أو مولى, ومنعوهم من الإرث, ومن العطاء، ومن القضاء, ومن الولاية وإمامة الجماعة, ومن الوقوف في الصفّ الأوّل منها, وأباحوا استرقاقهم، ولا يسترقّ غيرهم 32...
6- البكاء على الإمام الحسين عليه السلام
يشكّل البكاء على سيّد الشهداء عليه السلام جزءاً هامّاً من حياة الإمام السجّاد عليه السلام, حيث أخذ حيّزاً كبيراً من عمره الشريف، كما تحدّث بذلك العديد من الروايات, فقد كان يذكّر الناس بمصيبة أبيه, في كلّ يوم، وعند كلّ مناسبة, ليبقي جذوة هذا الحزن وقّادة في نفوسهم, وليذكّر الأمّة بالجريمة، التي ارتكبتها بحقّ آل بيت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، بخذلانها لهم، وابتعادها عن نهجهم, حتّى لقد عُدّ الإمام- بحقّ- أحد بكّائي التاريخ, وعرف بلقب "البكّاء" 33 لكثرة بكائه.
عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال: "بكى عليّ بن الحسين على أبيه حسين بن عليّ عشرين سنة، أو أربعين سنة 34، وما وَضع بين يديه طعاماً إلّا بكى على الحسين، حتّى قال له مولى له: جعلت فداك يا بن رسول الله، إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: إنمّا أشكو بثّي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون، إنّي لم أذكر مصرع بني فاطمة إلّا خنقتني العبرة لذلك" 35.
وعن الإمام الباقر عليه السلام : " ولقد بكى على أبيه الحسين عليه السلام عشرين سنة، وما وضع بين يديه طعام إلّا بكى، حتّى قال له مولى له: يا ابن رسول الله، أما آن لحزنك أن ينقضي؟ فقال له: ويحك، إنّ يعقوب النبيّ عليه السلام كان له اثنا عشر ابناً، فغيّب الله عنه واحداً منهم، فابيضّت عيناه من كثرة بكائه عليه، وشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغمّ. وكان ابنه حيّاً في الدنيا، وأنا نظرت إلى أبي، وأخي، وعمّي، وسبعة عشر من أهل بيتي، مقتولين حولي، فكيف ينقضي حزني" !! 36
وروي أنّه: أشرف مولى لعليّ بن الحسين، وهو في سقيفة له ساجد يبكي، فقال له: يا مولاي، يا عليّ بن الحسين، أما آن لحزنك أن ينقضي، فرفع رأسه إليه، وقال: ويلك أو ثكلتك أمّك والله لقد شكى يعقوب إلى ربّه في أقلّ ممّا رأيت، حتّى قال: ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾37 ، إنّه فقد ابناً واحداً، وأنا رأيت أبي وجماعة أهل بيتي يذبحون حولي38.
ولم يغب عن ذهن الإمام زين العابدين المشهد الفظيع، الذي رأى فيه حرق خيام بنات الرسالة وعقائل الوحي, ومنادي القوم ينادي: أحرقوا خيام الظالمين, وقد فرَّت بنات الرسالة من خباء، إلى خباء والنّار تلاحقهن. أمّا اليتامى فقد علا صراخهن، فبين من تعلّق بأذيال عمّته الحوراء لتحميه من النّار, وبين من هام على وجهه في البيداء...
فكان عليه السلام يقول: " والله ما نظرت إلى عمّاتي وأخواتي إلّا وخنقتي العبرة، وتذكّرت فرارهن يوم الطفّ من خيمة إلى خيمة، ومن خباء إلى خباء, ومنادي القوم ينادي، أحرقوا بيوت الظالمين"39.
يفترن خوات احسين من خيمة لعد خيمة *** او كل خيمة تشب ابنار ردن ضربن الهيمه
ينخن وين راحو وين ما ظل بالعده شيمه *** والسجاد إجوا سحبوه او دمعه اعلى الوجن ساله
وكان عليّ بن الحسين يميل إلى ولد عقيل، فقيل له: ما بالك تميل إلى بني عمّك هؤلاء دون آل جعفر، فقال: "إنّي أذكر يومهم مع أبي عبد الله الحسين بن عليّ، فأرقّ لهم"40.
وفي المناقب: وقيل: إنّه بكى حتّى خيف على عينيه.
وكان إذا أخذ إناءً يشرب ماءً بكى، حتّى يملأها دمعاً، فقيل له في ذلك فقال: "وكيف لا أبكي؟ وقد منع أبي من الماء، الذي كان مطلقاً للسباع والوحوش".
وقيل له: إنّك لتبكي دهرك، فلو قتلت نفسك لما زدت على هذا، فقال: "نفسي قتلتها، وعليها أبكي"41.
ويخرج إلى السوق أحياناً، فإذا رأى جزاراً يريد أن يذبح شاة أو غيرها، يدنو منه، ويقول: "هل سقيتها الماء"؟ فيقول له: نعم يا ابن رسول الله, إنّا لا نذبح حيواناً حتّى نسقيه ولو قليلاً من الماء, فيبكي عند ذلك، ويقول: "لقد ذبح أبو عبد الله عطشاناً"!
لا يُذْبَحُ الكَبْشُ حَتَّى يُسْقَى مِنْ ظَمَأ *** ويُذْبَحُ ابْنُ رَسُولِ اللهِ عَطْشانا
وجاء عنه أنّه دخل يوماً، فرأى غريباً، فسلّم عليه، ودعاه إلى بيته لضيافته, وقال له بحضور جمع من الناس: " أترى لو أصابك الموت وأنت غريب عن أهلك، هل تجد من يغسّلك ويدفنك"؟ فقال الناس: يا ابن رسول الله، كلّنا يقوم بهذا الواجب, فبكى وقال: "لقد قتل أبو عبد الله غريباً، وبقي ثلاثة أيّام تصهره الشمس بلا غسل ولا كفن"! 42
يناعي لو شفت شيعه وساد *** اخبرهم بالجره علينه وساده
احسين الرمل صاير له وساده *** ثلث تيام مرمي اعلى الوطيه
أيَا جَدَّنا هذا الحسينُ على الثَّرَى *** طَرِيحاً يُخَلَّى عارِياً لا يُغَسَّلُ
******
26-مرتضى العامليّ جعفر: دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام ج 1 ص 87, عن كتاب زين العابدين لعبد العزيز سيّد الأهل ص 47.
27- النور: 22.
28-ابن طاووس: إقبال الأعمال ص 560.
29- آل عمران: 134.
30-المفيد: الإرشاد ج 2 ص 146.
31- المفيد: الإرشاد ج 2 ص 147.
32-أنظر: مرتضى العامليّ جعفر: دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام ج 1 ص 89.
33- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 175.
34- الظاهر أن الترديد من الراوي, ولعلّ عدد الأربعين مبالغة منه, في إشارة إلى استغراق البكاء لتمام عمره الشريف, فإنّ الإمام لم يبق بعد أبيه الحسين أربعين سنة, كما تقدّم ذلك في تاريخ شهادته, فلاحظ.
35- ابن قولويه: كامل الزيارات ص 213.
36-الصدوق: الخصال ص 100.
37- يوسف: 84.
38-ابن قولويه: كامل الزيارات ص 213.
39-القرشيّ: حياة الإمام الحسين ج 3 ص 299.
40- ابن قولويه: كامل الزيارات ص 214.
41- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 166.
42-الحسنيّ هاشم معروف: سيرة الأئمّة الإثني عشر ج 2 ص 115.
الكتاب: سيد البكائين_شهادة الإمام زين العابدين