اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تابع
إنه أنامهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين[7] في ذلك الكهف، ثمّ بعثهم من نومهم ودفع بهم إلى مسرح الحياة، بعد أن كان ذلك الكيان الذي بهرهم بقوّته وظلمه قد تداعى وسقط، وأصبح تاريخاً لا يرعب أحداً ولا يحرّك ساكناً، كلّ ذلك لكي يشهد هؤلاء الفتية مصرع ذلك الباطل الذي كبر عليهم امتداده وقوّته واستمراره، ويروا انتهاء أمره بأعينهم ويتصاغر الباطل في نفوسهم.
و لئن تحقّقت لأصحاب الكهف هذه الرؤية الواضحة بكلّ ما تحمل من زخم وشموخ نفسيّين من خلال ذلك الحدث الفريد الذي مدّد حياتهم ثلاثمئة سنة، فإنّ الشيء نفسه يتحقّق للقائد المنتظر من خلال عمره المديد الذي يتيح له أن يشهد العملاق وهو قزم، والشجرة الباسقة وهي بذرة، والإعصار وهو مجرد نسمة[8].
أضف إلى ذلك، أن التجربة التي تتيحها مواكبة تلك الحضارات المتعاقبة، والمواجهة المباشرة لحركتها وتطوّراتها لها أثر كبير في الإعداد الفكري وتعميق الخبرة القيادية لليوم الموعود; لأنها تضع الشخص المدّخر أمام ممارسات كثيرة للآخرين بكلّ ما فيها من نقاط الضعف والقوة، ومن ألوان الخطأ والصواب، وتعطي لهذا الشخص قدرة أكبر على تقويم الظواهر الاجتماعية بالوعي الكامل على أسبابها، وكلّ ملابساتها التاريخية.
ثمّ إنّ عملية التغيير المدّخرة للقائد المنتظر تقوم على أساس رسالة معينة هي رسالة الإسلام، ومن الطبيعي أن تتطلب العملية في هذه الحالة قائداً قريباً من مصادر الإسلام الأولى، قد بنيت شخصيّته بناءً كاملاً بصورة مستقلة ومنفصلة عن مؤثرات الحضاره التي يقدّر لليوم الموعود أن يحاربها.
وخلافاً لذلك، الشخص الذي يولد وينشأ في كنف هذه الحضارة وتتفتّح أفكاره ومشاعره في إطارها، فإنّه لا يتخلّص غالباً من رواسب تلك الحضارة ومرتكزاتها، وإن قاد حملة تغييريّة ضدها.
فلكي يضمن عدم تأثر القائد المدّخر بالحضارة التي أعدّ لاستبدالها، لابدّ أن تكون شخصيته قد بنيت بناءً كاملاً في مرحلة حضارية سابقة هي أقرب ما تكون فى الروح العامة ومن ناحية المبدأ إلى الحالة الحضارية التي يتجّه اليوم الموعود إلى تحقيقها بقيادته.[9]
[1] إشارة إلى معتقد الإماميّة الاثني عشريّة المستند إلى أدلة المعقول والمنقول، وبالأخص إلى حديث الثقلين المتواتر «إني تركت فيكم ما إن تمسّكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله وعترتي أهل بيتي» . راجع: صحيح مسلم 4 : 1874 وراجع الصواعق المحرقة لابن حجر: ص 89، قال: ثمّ اعلم أنّ لحديث التمسّك بذلك طرقاً كثيرة وردت عن نيّف وعشرين صحابيّاً.
وكذلك إلى قوله (ص):«لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض...»، وإلى قوله (ص): «الخلفاء بعدي اثنا عشر كلهم من قريش». ومفاد ذلك كلّه تقرير هذا المعنى.
[2] تحدّث النبيّ الأكرم محمد (ص) كثيراً عن خصائصهم وأدوارهم، ووظيفتهم ومهمّاتهم، وأنهم حملة الشريعة، وسفن النجاة، وأمان الأمّة، وعصمتها من الضلال، كما إليه الإشارة في حديث الثقلين، وحديث لن يفترقا، وكلاهما يؤكّدان عصمتهم، إذ لا يعقل أنهم عصمة الأمّة من الضلال، وأنهم لن يفترقا عن القرآن المعصوم، وهم غير معصومين!!
راجع في هذا المطلب: الأصول العامّة للفقه المقارن / العلاّمة محمد تقي الحكيم / مبحث حجّية السنّة : ص 169 وما بعدها.
[3] أن يكون القائد التاريخي مهيّئاً نفسياً ومعدّاً إعداداً مناسباً لأداء المهمة، أمرٌ مفروغ منه، ولو رجعنا إلى القرآن الكريم لوجدناه يتحدّث عن هذه المسألة في تاريخ الأنبياء بصورة واضحة جدّاً، وبخاصة فيما يتعلّق بالنبيّ نوح (ع)، وهو أمرٌ يلفت الانتباه والنظر، وربّما يكون للتشابه والاتّفاق في الدور والمهمة التي أوكلت لهما، كما نبّه الشهيد الصدر (ره) إليه.
راجع: مع الأنبياء / عفيف عبدالفتاح طبارة.
[4] ويمكن أن تقرّب هذا المعنى بما عشناه وشاهدناه من صعود الاتّحاد السوفيتي وترقّيه حتى صار القطب الثاني في العالم، وتقاسم هو وأمريكا النفوذ الحضاري والهيمنة السياسية، وركبا معاً أجواء الفضاء، ثمّ شهدنا انهيار الاتّحاد السوفيتي وتفكّك أوصاله بمثل تلك السرعة القياسية في الانهيار، فكم كان لذلك من أثر؟ وكم كان فيه من عبرة؟ وكم فيه من دلالة عميقة؟
[5] جان جاك روسو (1712 ـ 1778 م) كاتب وفيلسوف فرنسي اعتبره بعض النقّاد الوجه الأبعد نفوذاً في الأدب الفرنسي الحديث والفلسفة الحديثة، وقد مهّدت كتاباته ومقالاته للثورة الفرنسية، وأشهر مؤلفاته العقد الاجتماعي، راجع: موسوعة المورد / منير البعلبكيّ 8 : 169.
[6] إشارة إلى الآية القرآنية المباركة: (إنهم فتيةٌ آمنوا بربّهم وزدناهم هدىً...)الكهف: 13، وراجع تفسيرها في الكشّاف / الزمخشري 2: 706، نشر دار الكتاب العربي ـ بيروت.
[7] إشارة إلى الآية: (ولبثوا فى كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادو تسعاً...)الكهف: 25.
[8] وكلّ ذلك له مدخليّة في تربيته وإعداده الإعداد الخاص، بما في ذلك امتلاكه النظرة الشمولية العميقة، فضلاً عن شهوده بنفسه ضآلة أولئك المتعملقين الذين يملؤون الدنيا ضجيجاً وصخباً، ويسترهبون الناس، وهذا الشهود يؤهّله أكثر فأكثر لأداء مهمته الكونية في التغيير، أي ملئه للأرض عدلاً بعدما ملئت ظلماً، هذا بغمض النظر عن مؤهّلاته الذاتية، والعناية الربّانيّة الخاصة.
[9] ولا ينبغي أن يُشكِل أحدٌ بأنّ النبيّ محمد (ص) مع عالمية رسالته ومهمّته التغييرية الكبرى، إلاّ أنه عاش في كنف الحضارة الجاهلية، ولم يتأثر بها، وكذا الأنبياء السابقون، فما هو الوجه في هذا الرأي؟
فجوابه:
أ - إنّ النبيّ (ص) قد أخضع فعلاً إلى حالة عزلة تامة عن الحضارة الجاهلية، وأنه كما ورد في السيرة النبوية قد حبّب إليه الخلاء، وكان يذهب إلى غار حراء يتحنّث فيه، وكذا الأنبياء كانوا يتنزّهون عمّا عليه مجتمعهم، وكانوا يعتزلون، وإليه الإشارة في قوله تعالى: (فلمّا اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق) مريم : 49.
ب ـ إنّ النبيّ المرسل يوحى إليه، ويسدّد مباشرة من السماء، ويبلّغ بالأعمال والخطوات التي يتخّذها خطوةً، والإمام (ع) لا يوحى إليه ـ كما هو عقيدة الإمامية ـ، ولا يبلّغ بالأمور مباشرة من السماء، نعم يكون مسدّداً وتحت العناية الربانيّة، ولذلك فهو يحتاج إلى إعداد خاص. ففي نفس الوقت الذي يكون فيه قريباً ومتّصلاً بالحضارة الإسلامية، مستمدّاً من آبائه (ع) الأصالة والمعرفة والعلم، يكون مطّلعاً على التجارب البشرية والحضارات في صعودها وعوامل تكوّنها وقوّتها، وكذلك إخفاقاتها وعوامل ضعفها وانهيارها، فيستمد الخبرة والقدرة والإحاطة بالأمور جميعاً، هذا مع اعتقادنا بقدرات الإمام العلمية الذاتية التي وهبها الله تعالى له، وبكونه مسدّداً من السماء،
تحيتي
مسك النبي الهادي