اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في خطبته في إخلاص التّوحيد المنقولة عن كتاب تحف العقول لابن شعبة الحرّاني، يقول أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسلام):
"إنّ أوّل عبادة الله معرفته، وأصل معرفته توحيده، ونظام توحيده نفي الصّفات عنه لشهادة العقول أنّ كلّ صفة وموصوف مخلوق، وشهادة كلّ مخلوق أنّ له خالقاً ليس بصفة ولا موصوف"
المطلب الأوّل الذي يبيّنه مولى الموحدين أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) في باب التّوحيد هو..
أنّ أوّل عبادة الله معرفته، وهذه الأوّليّة ليست أوّليّة عدديّة بحيث يُقابل الأوّل بالثاني والثالث، فليس الأوّل ههنا في قبال الثاني والثالث وليس في قبال الآخِر كذلك.
وما يواطئ هذا البيان قول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في مقام آخر: "يا أبا ذرّ من أحبنا أهل البيت فليحمد الله على أوّل النعم "
هنا نسأل: هلْ يمكن أنْ تُقاس نعمة الولايّة هذه بأيّ نعمة أخرى أو تُقابل بها؟
لا يمكن أنْ يكون لهذه النعمة وهي نعمة الولايّة مقابل، بل لا غير لهذه النعمة حتّى يقاس معها، وكلّ ما يُرى ويُشاهد من النعم الأخرى في الواقع هو من تجلّيات أولى النعم هذه.
في باب نسبة الأوّل والآخر للحقّ تعالى، لا يفرض لأوليّته وآخريّته تعالى أيّ مقابل عددي فهو الأوّل الإطلاقي، وهو الآخر الإطلاقي دون أنْ يكون له أيّ حدّ، وإلاّ لو فرضنا أنّ الأوّليّة والآخريّة المنسوبتين إلى الحقّ تعالى هما الأوليّة والآخريّة العدديتين، فإنّ أوّليّة الحقّ تصبح محدودة بحدود الغير وكذا آخريته، والحال أنّ الحقّ تعالى منـزّه عن كلّ حدّ وقيد، بلْ وننفي عنه تعالى كلّ صفة تؤدي إلى تقييده وتحديده وهذا هو معنى قوله (عليه السلام): "وكمال التّوحيد نفي الصّفات عنه"
في باب الممكن والمخلوق، عندما ننسب صفةً كماليّة ما إلى أيّ موجود ممكن محدود فإنّ هذه الصفة المنسوبة إليه تقابلها آلاف الحدود والقيود بحيث تختلط الأعدام والنقائص مع هذه الصفة الكماليّة المفروضة.
وأمّا في باب الحقّ تعالى، لو أردنا أنْ ننسب له تعالى صفتي الأوّل والآخر وغيرهما من الصّفات بالنحو الذي ننسب الصّفات إلى غيره من المقيَّدات والمخلوقات، فسيكون تعالى محدوداً بحدود الأوليّة والآخرية؛ أيْ لو فرضنا أنّ الله تعالى متّصفٌ بالأوّل على هذا النحو الذي نعتبره في الممكنات، فسيكون أولاَ يقابله ثانٍ وثالثٍ ورابع، ولوْ كان آخراً فله على هذا الفرض أولٌ، والحال أنّ هذا النحو من نسبة الصّفات له تعالى يتعارض مع نفس وحدته الإطلاقيّة المتناسبة مع وجوده المقدس عن كلّ شائبة إمكانية، بل الأمر أدقّ من هذا وسوف يتبين إنْ شاء الله تعالى؛ فالحقّ تعالى منـزّه عن حدّ الأوّليّة والآخريّة، ومنـزّه عن الابتداء المشار إليه بـ(من)، ومنـزّه عن الانتهاء المشار إليه بـ(إلى)، فهو الأوّل من دون آخر وانتهاء، وهو الآخر بدون أوّل وابتداء.
ثم إنّه لا بدّ أنْ نشير ههنا إلى مسألة مهمة وهي أنّ التّوحيد الذي يكشفه أمير المؤمنين (عليه السلام) إنّما ينكشف لأفهامنا بمقدار سعتنا الوجوديّة وإستعدادنا الذاتي، وإلاّ فإنّ عقولنا وأفهامنا وحتّى قلوبنا عاجزة وقاصرة عن نيل ما يريد أنْ يقوله مولى الموحدين أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولعل الله يوفقنا لأنْ نبيّن جاهدين ما يقوله (صلوات الله عليه وسلامه) في معاني التوحيد.
يقول تعالى في كتابه الكريم: { هُوَ الأوّلُ والآخِرُ والظاهِرُ والباطِنُ وَهُوَ بِكُلّ شيءٍ عليم }
فهو الأوّل ولكن لا آخر له، وهو الآخر ولكن لا أوّل له.
وإدراك هذه الأوّليّة والآخريّة المنسوبتين إلى الحقّ تعالى- وهي من الأسرار- يحتاج إلى لطف إلهي وعنايّة خاصة ربوبيّة نسأل الله أن نكون من أهلها.
يوجد توجيه في هذا المقام نبيّنه بحسب الإستعداد الذي نملكه وهو جدير بالاهتمام وهو أنّ الشيء عندما يُعطى عظمة الإبتداء اللامتناهيّة، نسميه أوّلا وهو قول الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " من أحبّنا أهل البيت فليحمد الله على أوّل النعم "
كلمة الأوّل موجودة في موارد كثيرة من الآيات والروايات التي يمكن من خلالها أنْ نتبيّن هذا المطلب وندركه، ولكن حيث أنّ للولايّة أثرٌ أكبر في نفوس أهل المحبّة، نستفيد من هذه الروايّة لبيان هذا المطلب الذي نحن بصدد الحديث عنه.
نريد أنْ نقول أنّ هذه النعمة عظيمة بنحو أن لا حدّ لها ولا انتهاء، فأوّل النعم هنا بمعنى أعظم النعم.
قوله (عليه السلام) أنّ أوّل عبادة الله معرفته هو بمعنى أنّ أعظم عبادة الله معرفته لا أنّ المرحلة الأولى من عبادة الله هي المعرفة ومن ثمّ يتلوها مراحل عدديّة أخرى.
إنّ نقطة الشروع والتعلق والارتباط بالحقّ تعالى في أرفع مقام هي معرفته، بحيث لا يوجد ما هو أرفع وأعظم منها.
وعلى هذا المنوال، عندما تُذكر صفات الحقّ تعالى وتُنسب له على نحو أفعل التفضيل فهي على هذا النحو.
يقول تعالى: { فَقُل الله أعْلمُ بما تعْمَلونَ }
ويقول في موضع آخر: { هُوَ أعْلمُ بمن اتّقى }
ويقول عزّ وجلّ في مقام ثالث: { فاللهُ خيرٌ حافظاً وهو أرحمُ الراحمين }
عندما يقول عزّ وجلّ أنه أعلم { أعلمُ بما تعملون }، فـ "أعلم" هنا لا تعني وجود من هو عالم وأنّه تعالى أعلم منه، بلْ لا يوجد عالمٌ في هذا الوجود في مقابل هذا الأعلم، وعندما يقول أنّه أرحم الراحمين فلا يمكن قبول وجود رحيم غيره وأنّه تعالى أرحم منه.
فالصّفات التفضيليّة لا تُنسب للحقّ تعالى بالمقايسة مع ما دونها، فقول إنّ الله تعالى هو أرحم الراحمين يعني نفي أيّ تصور لأيّ رحيم في هذا العالم غيره تعالى وتقدّس، فما في الدار غيره ديار، بل الأمر أدقّ من هذا.
عندما يقول تعالى: { فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين }، نسأل أين هو الحافظ الذي يوجد في قباله حتّى نقول أنّه خير حافظاً؟
في قبال الله تعالى لا يوجد شيء يمكن أنْ يقاس به إطلاقاً.
كلّ آيات القرآن التي تذكر صفات الحقّ تعالى بصيغة أفعل التفضيل إنّما تذكرها على نحو حقيقيّ نفسيّ لا على نحو نسبيّ قياسي، فالحقّ تعالى ليس مورداً للمقايسة مع أحد.
الصّفات النسبيّة إنّما تجعل في غير مورد الحقّ تعالى، فعندما نجد عالماً ونجد عالماً آخر، نقول هذا أعلم من ذاك بعد أنْ نقيس بين علم هذا وعلم ذاك، ولكنّ الحقّ لا يؤخذ بالقياس.
إذاً، هذه الأوليّة التي تقال في الحقّ تعالى هي أوليّة إطلاقيّة نفسيّة وليست أوليّة عدديّة نسبيّة، فمعنى قوله (عليه السلام):" إنّ أول عبادة الله معرفته " هو أنّ أعظم عبادة الله التي لا يمكن أن تُدرك وتطال بالعيون هي معرفته.
على سبيل المثال والبيان نقول..
أوّل ما يشرع به المرء في العبادة هي النيّة وهي أعظم العبادة، والأفعال التي تؤدّى بالجوارح من الصلاة والحج وغيرها من العبادات والأفعال التي تتحقّق في الخارج لا يمكن أنْ تقاس بالنية؛ النيّة هي شرط وأساس كلّ العبادات، بلْ الواقع أنّ كلّ العبادات والأفعال هي ظهور وانكشاف النيّة المعنوية، فإنّ النيّة في نفسها وذاتها ليست قابلة للحس واللمس وليست قابلة للرؤيّة والإراءة لأيّ شخص، ولكن لأجل أنْ تُرى النيّة في آثارها وفعليتها الخارجيّة المتحققة جُعلت الأفعال دليلاً وكاشفاً عنها، فيُؤتى بالفعل من الركوع والسجود لأجل إبراز هذه النيّة وإظهارها في مقام التعيّن الخارجي المحسوس.
فالنيّة هي لبّ العبادة بلْ كلّ العبادة، ولكنّ هذا لا يعني أنْ يُؤتى بالنيّة من دون العبادة، بل العبادة هي الظهور الطبيعي الخارجي لهذه النية، بحيث لوْ وجدت هذه النيّة ولم توجد موانع مانعة من ظهورها فإنّها تظهر تلقائياً في الواقع الخارجي المحسوس، فالنيّة أوّل العبادة لا بمعنى أنّ هناك ثانياً في العبادة، بل بمعنى أنّها أعظم العبادة، وكلّ العبادات الأخرى من الأفعال المخصوصة إنّما هي ظهورات وتجليات هذه النيّة في الواقع الخارجي.
وكذا الأمر في باب المحبّة، فكلّ من يحبّ ينبغي له أنّ يتحرك ويعبّر عن هذه المحبّة، فكلّ فعل ولفظ يقال تعبيراً عن هذه المحبّة إنّما هو كاشف ومبيّن لهذه المحبّة، وقد ورد هذا المعنى في الحديث.
رُوي أنّ رجلاً مرّ في المسجد وأبو جعفر (عليه السلام) جالسٌ وأبو عبد الله (عليه السلام)، فقال له بعض جلسائه: "والله إني لأحبُّ هذا الرجل"، فقال له أبو جعفر (عليه السلام): " ألا فأعلمه فإنّه أبقى للمودة وخير في الإلفة "
والأمر سيّان في باب العبادة، فنيّة العبادة هي الأساس ولكنّ الظهور الطبيعي للعبادة هو التعبير عنها بالألفاظ الكاشفة عنها من قبيل قولك لله تعالى: { إيّاك نعبد وإيّاك نستعين * إهدنا الصراط المستقيم }، وبالأفعال الكاشفة عن هذه النيّة.
هنا نبيّن لطيفة في باب المحبّة الولائيّة والإلهيّة أنّه عندما تقول { إيّاك نعبد } وتعبّر عن الوحدانيّة في هذه المحبّة المرتقية إلى درجة العبادة، فإنّه يعبّر عن هذه المحبّة والعبادة بلسان الجمع.
باب المحبّة الإلهيّة الأصيلة منـزّه تماماً عن كلّ محبّة دنيويّة؛ أنت تجد أنّ الغيرة هي الحاكمة في كلّ محبّة المحبّين بنحو أنّ المحبّ لا يقبل بأنْ يكون محبوبه محبوباً لغيره، فيريد أنّ يكون وحده هو المحبّ لمحبوبه، ولوْ ظهر له أنّ شخصاً يشاركه في محبّة محبوبه فلنْ يتوانى لحظةً أنْ يعمل سيف غيرته ضدّه.
وأمّا المحبّة الإلهيّة فتختلف عن كلّ أنواع المحبّة، ففي حين تجد أنّ كلّ أنواع وأصناف المحبّات البشريّة مخلوطة بالغيرة والأنانية، تجد المحبّة الإلهيّة منـزّهةً عن الغيرة والأنانية، ومن هنا تُساق العبادة والمحبّة لله غالباً على نحو صيغة الجمع، فنقول: { إيّاك نعبد وإيّاك نستعين}، ونقول: { إهدنا الصراط المستقيم }، حتّى يتخلّص الإنسان الموالي المحبّ من كلّ محبّة نابعة من الهوس والهوى النابعين من الأنانيّة والإنيّة، وهذا ما يشاهَد بوضوح أيضاً في باب محبّة أهل بيت العصمة والطهارة.
عندما نعلن تولينا ومحبتنا للإمام الحسين عليه السلام نقول له: " يا ليتنا كنّا معكم فنفوز فوزاً عظيماً "، فهي محبّة جمعية، والدافع الأساسي لهذه المحبّة الجمعيّة أنْ يتخلص الإنسان من أيّ هوى وهوس في باب المحبّة الولائيّة والإلهيّة.
هذه المسألة دقيقة جداً وهي مفتاح عظيم لفتح باب المعرفة الالهيّة، ومن لا يلتفت إلى هذه النكتة لا محل له في جنب الله تعالى، فالارتباط مع الحقّ تعالى الذي يظهر بالعبادة يكون بالطلب الجمعي، وهذا الطلب الجمعي لا مجال فيه لسيف الغيرة، بخلاف المحبّات التي تنشأ من الهوس والهوى المخلوطة بالغيرة.
من يحبّ محبوباً ولا يريد في عمق وجوده فضلاً عن ظاهره أنْ يكون هذا المحبوب لشخص آخر غيره ناقصٌ في باب المحبّة، ومن هنا تجدون في باب محبّة أهل البيت عليهم السلام أنّ المحبّين الموالين يدعون الناس لمحبّة أمير المؤمنين عليه السلام ومحبّة الإمام الحسين عليه السلام، وأمّا تلك المحبّة التي لا يسمح فيها المحبّ أنْ ينظر فيها أحدٌ لمحبوبه، فهي محبّة ناقصة وبعيدة عن المحبّة الأصيلة وهي مخلوطة بالهوى والهوس، بل هي نفسها هوس وهوى.
هذا الأمر عظيم وخطير بنحو أنّه عندما تصل محبّة المحبّ إلى الذروة، وتحصل له المرتبة العظيمة والشريفة في عالم المحبّة، يدعو الناس إلى محبوبه، ويعينهم على تحصيل الإرتباط بمحبوبه ويضع نفسه جانباً.
عندما يرى المحبّ أنّ الصفوف قد ازدحمت في صلاة الجماعة، فإنّه يتنحّى عن الصفوف الأماميّة جانباً ويقول للناس أنْ يأخذوا مكانه، ويختار لنفسه مكاناً جانبياً.
وأمّا المصلّي غير المحبّ أو المخلوطة محبته بالهوى والهوس، فيقول لمن يريد أنْ يأخذ مكانه: إنّ هذا مكاني ولا أقبل أنْ أخلّيه لك.
إنّ كلّ رغبة المحبّ الحقيقي أنْ يجعل محبوبه مشهوراً، ويصيّر محبوبه معروفاً، والأنبياء كلّهم قد فعلوا هذا الفعل، حيث عرفّوا الناسَ على محبوبهم ومعشوقهم ودعوهم إليه.
في عالم الطبيعة والمادة التي أساسها الهوس والهوى، يسلّط الإنسان سيف الغيرة على الآخرين ويطردهم، وأمّا في عالم المعنى فإن المحبّ يجمع الآخرين على هذه المحبّة ويتنحّى بنفسه جانباً حتّى يفسح مجالاً للآخرين.
في يوم عاشوراء، وصل أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) إلى هذه المرتبة حيث تعرّفوا على الحقّ تعالى بدعوة الناس إلى محبّة الحسين (عليه السلام).
التوحيد الشهودي لسماحة العارف الكامل السيد أحمد الموسوي النجفي
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين