اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الرحمة الحسينيّة
الرحمة : كلمة تقع على القلب موقع الاطمئنان والسرور والمحبّة , وهي خلقٌ إنسانيّ أوجب الله تعالى ـ وهو أرحم الراحمين ـ أن يرحم من تخلّق به ؛ إذ الرحمة من أخلاقه سبحانه (عزّ وجلّ) ؛ ولذا نسمع رسول الله , نبيّ الرحمة (صلّى الله عليه وآله) يقول : (( الراحمون يرحمهمُ الرحمنُ يومَ القيامة . ارحمْ مَن في الأرض يرحمْك مَن في السماء ))(1) .
وجاء رجلٌ فقال له : أحبّ أن يرحمني ربّي . فقال له المصطفى (صلّى الله عليه وآله) : (( ارحم نفسَك , وارحم خلْقَ الله يرحمْك الله ))(2) .
أمّا أمير المؤمنين (عليه السّلام) فقد كان له كلمات اُخرى تدعو إلى الرحمة وترغّب فيها , وتبيّن عوائدها الطيّبة , من ذلك قوله (سلام الله عليه) : (( أحْسِن يُحسَنْ إليك . ارحم تُرحم(3) . اِرحم مَن دونَك يرحمْك مَن فوقَك , وقس سهوه بسهوك , ومعصيته بمعصيتك لرّبك , وفقرَه إلى رحمتك بفقرك إلى رحمة ربّك(4) . عجبت لمَن يرجو رحمة من فوقه كيف لا يرحم من دونه ))(1) .
وفي موجبات الرحمة الإلهيّة قال (عليه أفضل الصلاة والسّلام) : (( ببذل الرحمة تستنزل الرحمة(2) . رحمة الضعفاء تستنزل الرحمة(3) . أبلغُ ما تُستدرُّ به الرحمة أن تضمر لجميع الناس الرحمة ))(4) .
وهذا خلق الأنبياء والأوصياء , وقد كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أرحم الناس بالناس , فنصح لهم وهداهم سبيل الخير والصلاح , ودعاهم إلى السّلام والأخلاق الطيّبة , وأخذ بأيديهم إلى سعادة الدنيا والآخرة , إلاّ من أبى , حتّى قال الله تعالى فيه : (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)(5) . (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)(6) .
فكان من أوصافه (صلّى الله عليه وآله) أنّه يشقُّ عليه ضرُّ الناس أو هلاكهم , وأنّه حريصٌ عليهم جميعاً ؛ من مؤمنٍ أو غير مؤمن , وأنّه رؤوفٌ رحيمٌ بالمؤمنين منهم خاصّة . وكان (صلّى الله عليه وآله) رحمةً لأهل الدنيا ؛ لأنّه أتى بدين فيه سعادتهم , وهو القائل : (( إنّما أنا رحمةٌ مهداة ))(7) .
وتلك سيرته الشريفة العاطرة تشهد برحمته التي طبّقت الآفاق , وشملت الناس جميعاً , فكان يحنو على الأطفال واليتامى والأرامل , والفقراء والمساكين , ويشفق على الصبيان والبنات , والمظلومين والمحرومين , ويرحم أصحابه أخيه )) . وأعطاه خمسة أثوابٍ قيمتها ألف دينار , وقُتل بشر في الحملة الاُولى(1) .
ولا تقف الرحمة الحسينيّة عند حدّ , فبعد شهادة القاسم (عليه السّلام) برز أخوه أحمد بن الحسن , فقاتل حتّى أخذه العطش , فنادى : يا عمّاه ! هل من شربة ماء ؟
فقال له الحسين (عليه السّلام) : (( يابن أخي , اصبر قليلاً حتّى تلقى جدّك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فيسقيك شربةً من الماء لا تظمأ بعدها أبداً ))(2) .
فرجع الغلام وقاتل صابراً متصبّراً بكلمة عمّه الحسين (سلام الله عليه) .
ولمّا سقط الإمام الحسين (عليه السّلام) بعد جراحات لا يقوى معها على قيام , نظر إليه ابن أخيه عبد الله بن الحسن السبط (عليه السّلام) , وله إحدى عشرة سنة , وقد أحدق به القوم , فأقبل يشتدّ نحو عمّه , وأرادت زينب حبسه فأفلت منها , وجاء إلى عمّه , فأهوى بحرُ بن كعب بالسيف ليضرب الحسين فصاح الغلام : يابن الخبيثة ! أتضرب عمّي ؟!
فضربه , واتّقاها الغلام بيده فأطنّها إلى الجلد , فإذا هي معلّقةٌ , فصاح الغلام : يا عمّاه ! ووقع في حِجر الحسين (عليه السّلام) , فضمّه إليه وقال : (( يابن أخي , اصبر على ما نزل بك , واحتسب في ذلك الخير ؛ فإنّ الله تعالى يلحقك بآبائك الصالحين )) .
فرمى الغلامَ حرملةُ بن كاهل بسهمٍ فذبحه وهو في حجر عمّه .
في حالةٍ كان يجود الحسين (عليه السّلام) بنفسه ضمَّ إليه ذلك الغلام , وصبّره بتلك الكلمات التي تُنسي الألمَ وشدّة الموقف . إنّها الرحمة الحسينيّة التي فاضت خيراً وإنسانيّة وكرماً لا على الإنسان فحسب , بل تعدّته إلى البهائم .
فعند مبارزته اشتدّ به العطش , فحمل نحو الفرات على عمرو بن الحجّاج فكشف جندَه , وكانوا أربعة آلاف , كشفهم عن الماء وأقحم الفرس الماء ليشرب(1) .
وأكثر من ذلك ما رواه الطبريّ , حيث ذكر في تاريخه(2) : فبعد أن طلع عليهم الحرّ الرياحيّ مع ألف فارس بعثه ابن زياد ليحبس الحسين عن الرجوع إلى المدينة أينما وجده , أو يقْدم به الكوفة , فوقف الحرُّ وأصحابه مقابل الحسين في حَرِّ الظهيرة(3) .
قال الطبريّ : فلمّا رأى سيّدُ الشهداء ما بالقوم (أي الحُرّ وأصحابه) من العطش أمر أصحابه أن يسقوهم ويرشّفوا الخيل , فسقوهم وخيولَهم عن آخرهم , ثمّ أخذوا يملؤون القصاع والطساس ويُدنونها من الفرس , فإذا عبّ فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عُزلت وسُقي آخر حتّى سقوا الخيل كلّها .
وكان عليُّ بن الطعان المحاربيّ مع الحرّ , فجاء آخرَهم وقد أضرَّ به العطش , فقال الحسين (عليه السّلام) : (( أنخِ الراوية )) . وهي الجمل بلغة الحجاز , فلم يفهم مراده , فقال (عليه السّلام) : (( أنخِ الجمل )) . ولمّا أراد أن يشرب جعل الماءُ يسيل من السقاء , فقال له الإمام الحسين (عليه السّلام) : (( أخنث السقاء )) . فلم يَدْرِ (عليّ بن الطعان) ما يصنع ؛ لشدّة العطش , فقام (عليه السّلام) بنفسه وعطف السقاء حتّى ارتوى وسقى فرسه(4) .
وهذه هي الرحمة الحسينيّة العجيبة , فبيده الشريفة يسقي البهائم الظامئة ,الأبيّة , حتّى ترك ذلك أثراً على ظهره , فسُئل الإمام زين العابدين (عليه السّلام) عن ذلك , فقال : (( هذا ممّا كان ينقل الجرابَ على ظهره إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين ))(1) .
إلاّ أنَّ هذا الظهر العطوف قد عملت فيه سيوفُ ورماح وسهام أعداء الله عملَها , ثمّ جاءت خيولهم فداسته . وذلك الصدر الرحيم الذي حمل هموم المحرومين , وفاض بالحنان على اليتامى والمساكين , وجاد على الناس حتّى العدوّ منهم بالنصيحة والموعظة لم يدّخر من ذلك شيئاً , قد هشّمته السيوفُ وسنابك الخيل .
وذلك الوجه النوريّ المقدّس الذي سجد لله طويلاً , وبكى على آلام الناس طويلاً فُصلِ عن البدن ورُفع على الرمح ؛ تشفّياً ونكالاً , ولم يستحِ العدوُّ وقد رأى الحسينَ (عليه السلامُ) يبكي , فسُئل عن ذلك وهو في ساحة الطفّ , فأخبر بأنّه يبكي على أعدائه حيث احتشدوا عليه يريدون قتله , وبذلك يدخلون النار بانتهاك حرمته .
لقد كان منهم ما تتفطّر له السماوات وتنهدّ الجبال ؛ حيث :
فرى الغيُّ نحراً يَغبطُ البدرُ نورَه وفي كلِّ عِرقٍ منه للحقِّ فرقدُ
وهشّمَ أضلاعاً بها العطفُ مودَعٌ وقطّع أنفاساً بها اللطفُ موجَدُ(2)
ـــــــــــ
(1) بحار الأنوار 77 / 167 .
(2) كنز العمال ـ الخبر 44154 .
(3) بحار الأنوار 77 / 383 .
(4) غرر الحكم / 66 .
(1) غرر الحكم / 218 .
(2) غرر الحكم / 148 .
(3) غرر الحكم / 187 .
(4) غرر الحكم / 99 .
(5) سورة التوبة / 128 .
(6) سورة الأنبياء / 107 .
(7) تفسير نور الثقلين 3 / 466 ح 197 .
(1) العيون العبرى ـ للسيّد إبراهيم الميانجيّ / 111 .
(2) مقتل أبي مخنف / 126 .
(1) مقتل العوالم / 98 , ونَفَس المهموم / 188 .
(2) ج 6 / 226 .
(3) مقتل الحسين (عليه السّلام) ـ للخوارزميّ 1 / 230 .
(4) مقتل الحسين (عليه السّلام) ـ للسيّد المقرّم / 182 .
(1) سورة البلد / 6 ـ 11 .
(2) الخصائص الحسينيّة / 33 .
(1) المناقب 4 / 66 .
(2) من قصيدة للسيّد صالح ابن العلاّمة السيّد مهدي بحر العلوم .
الأخلاق الحسينية:جعفر البياتي
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين