اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كيف اكتمل إعداد القائد المنتظر ؟
كيف اكتمل إعداد القائد المنتظر مع أنّه لم يعاصر أباه الإمام العسكري إلاّ خمس سنوات تقريباً ؟ وهي فترة الطفولة التي لا تكفي لإنضاج شخصية القائد ، فما هي الظروف التي تكامل من خلالها ؟ .
والجواب : إنّ المهديّ (ع) خلف أباه في إمامة المسلمين ، وهذا يعني أنّه كان إماماً بكلّ ما في الإمامة من محتوىً فكري وروحي في وقت مبكّر جداً من حياته الشريفة .
والإمامة المبكّرة ظاهرة سَبقهُ إليها عددٌ من آبائه (ع) ، فالإمام محمد بن علي الجواد (ع) تولّى الإمامة وهو في الثامنة من عمره (1) ، والإمام علي بن محمد الهادي تولّى الإمامة وهو في التاسعة من عمره (2) ، والإمام أبو محمد الحسن العسكري (3) ـ والد القائد المنتظر ـ تولّى الإمامة وهو في الثانية والعشرين من عمره ، ويلاحظ أنّ ظاهرة الإمامة المبكّرة بلغت ذروتها في الإمام المهديّ والإمام الجواد ، ونحن نسمّيها ظاهرةً ، لأنّها كانت بالنسبة إلى عدد من آباء المهديّ (ع) ، تشكّل مدلولاً حسيّاً عملياً عاشه المسلمون ، ووعوه في تجربتهم مع الإمام بشكل وآخر ، ولا يمكن أن نُطالب بإثبات لظاهرة من الظواهر أوضح وأقوى من تجربة أُمّة (1) .
ونوضّح ذلك ضمن النقاط التالية :
أ - لم تكن إمامة الإمام من أهل البيت ، مركزاً من مراكز السلطان والنفوذ ، التي تنتقل بالوراثة من الأب إلى الابن ، ويدعمها النظام الحاكم كإمامة الخلفاء الفاطميّين ، وخلافة الخلفاء العباسيّين ، وإنّما كانت تكتسب ولاء قواعدها الشعبية الواسعة عن طريق التغلغل الروحي ، والإقناع الفكري لتلك القواعد بجدارة هذه الإمامة لزعامة الإسلام ، وقيادته على أُسس روحية وفكرية .
ب - إنّ هذه القواعد الشعبية بُنيت منذ صدر الإسلام ، وازدهرت واتّسعت على عهد الإمامين الباقر والصادق (ع) ، وأصبحت المدرسة التي رعاها هذان الإمامان في داخل هذه القواعد ، تشكّل تيّاراً فكرياً واسعاً في العالم الإسلامي ، يضم المئات من الفقهاء والمتكلّمين والمفسّرين والعلماء ، في مختلف ضروب المعرفة الإسلامية والبشرية المعروفة وقتئذ ، حتى قال الحسن بن عليّ الوشا : إنّي دخلت مسجد الكوفة فرأيت فيه تسعمِئة شيخ (2) ، كلّهم يقولون حدّثنا جعفر بن محمد .ج - إنّ الشروط التي كانت هذه المدرسة وما تُمثّله من قواعد شعبيّة في المجتمع الإسلامي ، تؤمن بها وتتقيّد بموجبها في تعيين الإمام ، والتعرّف على كفاءته للإمامة ، شروط شديدة ; لأنّها تؤمن بأنّ الإمام لا يكون إماماً إلاّ إذا كان أعلم علماء عصره (1) .
د - إنّ المدرسة وقواعدها الشعبية ، كانت تقدّم تضحيات كبيرة في سبيل الصمود على عقيدتها في الإمامة ; لأنّها كانت في نظر الخلافة المعاصرة لها تشكّل خطّاً عدائياً ، ولو من الناحية الفكرية على الأقل ، الأمر الذي أدّى إلى قيام السلطات وقتئذ وباستمرار تقريباً بحملات من التصفية والتعذيب ، فقُتل مَن قُتل ، وسُجن مَن سُجن ، ومات في ظلمات المعتقلات المئات . و هذا يعني أنّ الاعتقاد بإمامة أئمّة أهل البيت كان يكلّفهم غالياً (2) ، ولم يكن له من الإغراءات سوى ما يحسّ به المعتقد أو يفترضه من التقرّب إلى الله تعالى والزلفى عنده .
هـ - إنّ الأئمّة الذين دانت هذه القواعد لهم بالإمامة لم يكونوا معزولين عنها ، ولا متقوقعين في بروج عالية ، شأن السلاطين مع شعوبهم ، ولم يكونوا يحتجبون عنهم إلاّ أن تحجبهم السلطة الحاكمة بسجن أو نفي ، وهذا ما نعرفه من خلال العدد الكبير من الرواة والمحدّثين عن كلّ واحد من الأئمّة الأحد عشر ، ومن خلال ما نُقل من المكاتبات التي كانت تحصل بين الإمام ومعاصريه ، وما كان الإمام يقوم به من أسفار من ناحية ، وما كان يبثّه من وكلاء في مختلف أنحاء العالم الإسلامي من ناحية أخرى ، وما كان قد اعتاده الشيعة من تفقّد أئمتهم وزيارتهم في المدينة المنوّرة ، عندما يؤمّون الديار المقدّسة من كلّ مكان لأداء فريضة الحج (1) ، كلّ ذلك يفرض تفاعلاً مستمراً بدرجة واضحة ، بين الإمام وقواعده الممتدّة في أرجاء العالم الإسلامي ، بمختلف طبقاتها من العلماء وغيرهم .
و - إنّ الخلافة المعاصرة للأئمّة (ع) ، كانت تنظر إليهم وإلى زعامتهم الروحية والإمامية ، بوصفها مصدر خطر كبير على كيانها ومقدّراتها ؛ وعلى هذا الأساس بذلت كلّ جهودها في سبيل تفتيت هذه الزعامة ، وتحمّلت في سبيل ذلك كثيراً من السلبيّات ، وظهرت أحياناً بمظاهر القسوة والطغيان حينما اضطرّها تأمين مواقعها إلى ذلك ، وكانت حملات الاعتقال والمطاردة مستمرّة للأئمّة (2) أنفسهم ، على الرغم ممّا يخلّفه ذلك من شعور بالألم أو الاشمئزاز ، عند المسلمين وللناس الموالين على اختلاف درجاتهم .إذا أخذنا هذه النقاط الست بعين الاعتبار ، وهي حقائق تاريخية لا تقبل الشكّ ، أمكن أن نخرج بنتيجة ، وهي : أنّ ظاهرة الإمامة المبكّرة كانت ظاهرةً واقعية ، ولم تكن وهماً من الأوهام ; لأنّ الإمام الذي يبرز على المسرح وهو صغير ، فيعلن عن نفسه إماماً روحيّاً وفكريّاً للمسلمين ، ويدين له بالولاء والإمامة كلّ ذلك التيّار الواسع ، لابدّ أن يكون على قدر واضح وملحوظ ، بل وكبير من العلم والمعرفة ، وسعة الأفق ، والتمكّن من الفقه والتفسير والعقائد ; لأنّه لو لم يكن كذلك لَما أمكن أن تقتنع تلك القواعد الشعبية بإمامته ، مع ما تقدّم من أنّ الأئمّة كانوا في مواقع تتيح لقواعدهم التفاعل معهم ، وللأضواء المختلفة أن تُسلّط على حياتهم وموازين شخصيّتهم .
فهل ترى أنّ صبيّاً يدعو إلى إمامة نفسه ، وينصّب منها علماً للإسلام ، وهو على مرأىً ومسمع من جماهير قواعده الشعبية ، فتؤمن به وتبذل في سبيل ذلك الغالي من أمنها وحياتها ، بدون أن تكلّف نفسها اكتشاف حاله ، وبدون أن تهزّها ظاهرة هذه الإمامة المبكّرة ؛ لاستطلاع حقيقة الموقف ، وتقويم هذا الصبيّ الإمام ؟ (1) وهب أنّ الناس لم يتحركوا لاستطلاع المواقف ، فهل يمكن أن تمرّ المسألة أيّاماً وشهوراً ، بل أعواماً دون أن تُتكشّف الحقيقة ، على الرغم من التفاعل الطبيعي المستمرّ بين الصبيّ الإمام وسائر الناس ؟ وهل من المعقول أن يكون صبيّاً في فكره وعلمه حقّاً ، ثمّ لا يبدو ذلك من خلال هذا التفاعل الطويل ؟
وإذا افترضنا أنّ القواعد الشعبية لإمامة أهل البيت لم يُتح لها أن تكتشف واقع الأمر ، فلماذا سكتت الخلافة القائمة ولم تعمل لكشف الحقيقة إذا كانت في صالحها ؟ وما كان أيسر ذلك على السلطة القائمة ، لو كان الإمام الصبيّ صبيّاً في فكره وثقافته ، كما هو المعهود في الصبيان ، وما كان أنجحه من أسلوب أن تقدّم هذا الصبي إلى شيعته وغير شيعته على حقيقته ، وتبرهن على عدم كفاءته للإمامة والزعامة الروحيّة والفكرية . فلئن كان من الصعب الإقناع بعدم كفاءة شخص في الأربعين أو الخمسين ، قد أحاط بقدر كبير من ثقافة عصره لتسلّم الإمامة ، فليس هناك صعوبة في الإقناع بعدم كفاءة صبيّ اعتيادي ، مهما كان ذكيّاً وفطناً للإمامة بمعناها الذي يعرفه الشيعة الإماميون (1) ، وكان هذا أسهل وأيسر من الطرق المعقّدة وأساليب القمع ، والمجازفة التي انتهجتها السلطات وقتئذ .
إنّ التفسير الوحيد لسكوت الخلافة المعاصرة عن اللعب بهذه الورقة (2) ، هو أنّها أدركت أنّ الإمامة المبكّرة ظاهرة حقيقيّة وليست شيئاً مصطنعاً .
والحقيقة أنّها أدركت ذلك بالفعل ، بعد أن حاولت أن تلعب بتلك الورقة فلم تستطع ، والتاريخ يحدّثنا عن محاولات من هذا القبيل وفشلها (3) ، بينما لم يحدّثنا إطلاقاً عن موقف تزعزعت فيه ظاهرة الإمامة المبكّرة ، أو واجه فيه الصبيّ الإمام إحراجاً يفوق قدرته ، أو يزعزع ثقة الناس فيه .
وهذا معنى ما قلناه ، من أنّ الإمامة المبكّرة ظاهرة واقعية في حياة أهل البيت ، وليست مجرّد افتراض ، كما أنّ هذه الظاهرة الواقعية لها جذورها وحالاتها المماثلة في تراث السماء ، الذي امتدّ عبر الرسالات والزعامات الربّانيّة .
ويكفي مثالاً لظاهرة الإمامة المبكّرة في التراث الربّاني لأهل البيت (ع)
---------------
(1) راجع : الفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكيّ المكّيّ ( ت / 855 هـ ). وراجع : الإرشاد / الشيخ المفيد : ص 316 وما بعدها .
(2) راجع : التتمّة في تواريخ الأئمّة / السيد تاج الدين العاملي من أعلام القرن الحادي عشر الهجري ، نشر مؤسّسة البعثة - قم .
وراجع : الصواعق المحرقة لابن حجر : ص 123 ـ 124، إذ ذكر طرفاً من سيرة الإمام وكراماته .
(3) راجع : التتمّة في تواريخ الأئمّة / السيد تاج الدين العاملي من أعلام القرن الحادي عشر الهجري ، نشر مؤسّسة البعثة - قم .
وراجع : الصواعق المحرقة لابن حجر : ص 123 ـ 124، إذ ذكر طرفاً من سيرة الإمام وكراماته .
(1) راجع : الإرشاد / الشيخ المفيد : ص 319 وما بعدها. والصواعق المحرقة : ص 123 ـ 124
فقد أوردا قصة المحاورة التي دارت بين الإمام الجواد (ع) ويحيى بن أكثم زمن المأمون ، وكيف استطاع الإمام (ع) أن يثبت أعلميّته وقدرته على إفحام الخصم وهو في تلك السن المبكّرة .
(2) راجع : المجالس السنيّة / السيد الأمين العاملي 5: 209، وهذه قضية مشهورة تناقلها الخاص والعام . وراجع : صحاح الأخبار / محمد سراج الدين الرفاعي : ص 44 ، نقلاً عن الإمام الصادق والمذاهب الأربعة / أسد حيدر 1: 56.
وقال ابن حجر في الصواعق المحرقة ص 120 : ( جعفر الصادق ، نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان ، وانتشر صيته في جميع البلدان ، وروى عنه الأئمّة الأكابر كيحيى بن سعيد ، وابن جريج ، ومالك والسفيانين ، وأبي حنيفة ، وشعبة ، وأيوب السختياني... ) .
(1) كون الإمام أعلم أهل زمانه أمرٌ متسالم عليه عند الإمامية . راجع : الباب الحادي عشر / العلاّمة الحلّيّ ، هذا وقد عُرّضوا لأكثر من اختبار ( صلوات الله وسلامه عليهم ) ؛ لإثبات هذا المدّعى ، ونجحوا فيه .
راجع : الصواعق المحرقة لابن حجر : ص 123، فقد نقل تفصيلاً في هذه المسألة عن مسائل يحيى بن أكثم للإمام الجواد (ع) .
(2) إنّ الاعتقاد بإمامة الأئمّة كلّف أتباعهم غالياً ، وهذا ثابت تاريخياً ، وليس إلى إنكاره من سبيل ، والشاهد يدلّ على الغائب أيضاً . راجع : مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج الأصفهاني .
(1) وقد أوصى الأئمّة بذلك أتباعهم كما هو لسان الروايات الكثيرة .
راجع : أصول الكافي 1: 322 / كتاب الحجّة / باب 2 ( إنّ الواجب على الناس بعدما يقضون مناسكهم ، أن يأتوا الإمام فيسألونه عن معالم دينهم ، ويُعلمونه ولايتهم ومودّتهم له ) .
(2) راجع في تاريخ الأئمة (ع) ، وتعرّضهم للاضطهاد والمطاردة والسجن والقتل أحياناً :
أ ـ الفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكي .
ب ـ مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج الأصفهاني .
ج ـ الإرشاد للشيخ المفيد .
(1) إشارة إلى الإمام المهديّ (ع) ، ومن قبلُ إلى الإمام الجواد مثلاً .
(1) أي على أنّه يجب أن يكون أفضل الناس وأعلم الناس ، كما هو معتقد الإماميّة الاثني عشريّة .
راجع : حقّ اليقين في معرفة أُصول الدين للسيد عبد الله شُبّر ( ت / 1242 هـ ) 1: 141، المقصد الثالث .
(2) يقصد تقديم الإمام الصبيّ للاختبار أمام الملأ لإظهار حقيقة الأمر .
(3) قد فعل المأمون ذلك ، وانكشف لدى الخاصّ من العلماء مدى ما يمتلكه الإمام الجواد (ع) من الفقه والعلم . راجع : الصواعق المحرقة لابن حجر : ص 123 .
(1) وقد شاهد خاصّة الشيعة الإمام المهديّ واتّصلوا به ، وأخذوا عنه ، كما حصل عن طريق السفراء الأربعة . راجع : تبصرة الولي فيمَن رأى القائم المهديّ / البحراني ، والإرشاد / الشيخ المفيد : ص 345، وراجع تفصيلاً وافياً في دفاع عن الكافي / السيد ثامر العميدي 1: 535 وما بعدها .
بحث حول المهدي (عج):الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين