شاهدت العقيلة هول مقتل واستشهاد أخيها ورفيقها وحبيبها الحسين . شاهدت جسده الطاهر وقد تناوشته السيوف والرماح , حتى لم يبق موضع منه دون أن يصاب بضربة سيف أو طعنة رمح أو رمية سهم , ثم شاهدت الطغاة وقد حزوا رأسه الشريف , ثم رضوا جسده بسنابك وحوافر الخيل , فحضنت الجسد المثخن الشريف وقالت : (( ربنا تقبل منا هذا القربان )) .
شاهدت لوعة النساء وصراخ الأطفال , وتوجع ابن أخيها العليل زين العابدين , وسبي النساء وثكل الأمهات .
شاهدت كل هذا , وصبرت وصابرت , وواست وبلسمت , فعل مجاهدة مؤمنة صابرة , ثم حمدت الله على كل حال .
مناجاتها لأخيها الحسين : (( أُخي حسين رحلت عنك والأسى يرافقني وتحملت الأذى والكرب في سبيلي ولم تغب ذكراك يوما عني حتى أرجعت إليك والهم أصبح قطعة مني وأردت لمسة منك تظللني إلا إنني وجدتك تحت الثرى قد غبت عن عيني فعادت الذكرى تحمل آهات قلبي وكان العود دونك أكبر همي ومما زاد حزني ووني ومكوثي بعدك بالحياة يا نور عيني فيا ليت شعري ألشقاء ولدتني أمي وربتني . أخي يا أملي وعقب جماني المنضودة مالي دعوتك لم تجب ولم تكن عودتني من قبل ذاك صدودا .. ))
وبعد واقعة الطف المؤلمة وقفت زينب وقفة المسؤولية والواجب , فلم تدع للآلام التي كانت تفري أحشاءها , سبيلا لمنعها من التصدي للأعباء التي ساقتها إليها الأحداث فها هو ابن أخيها وإمامها وإمام المسلمين بعد أخيه , عليل يحتاج إلى رعاية , فلم تبخل عليه بها , ويحتاج إلى حماية , فحمته بجسدها الطاهر مرات حين حاول قتله الشمر , وابن زياد . وغيرهما .
ثم هاهم أطفال شهداء اليتامى , ونساؤهم الثكالى المفجوعات , بحاجة إلى العطف والمواساة , كما هم بحاجة إلى أسباب العيش , فكانت في كل هذا على خير ما يرجى من أمثالها , عطفا وحنانا , وجهدا وإيثارا , حتى أنها كانت تحرم نفسها أياما من اللقمة وتؤثر بها على غيرها , خلال رحلة العودة , رحلة الغم والحزن من كربلاء إلى الكوفة إلى الشام , ثم إلى المدينة المنورة .
أما موقفها من الدعوة للحق والعدل , فقد كانت قوية جريئة , وارتفع صوتها الهادر أمام الطغاة يزيد وابن زياد وعمر بن سعد , وأمام أهل الكوفة الناكثين الجبناء , ضعاف النفوس والإيمان .
كانت كاللبؤة الجريحة الثائرة , تصب خطبها كالحمم على رؤوسهم , وتقرع بقول الحق آذانهم , فحركت النفوس الغافلة, وثورت القلوب المترددة . أليست القائلة ليزيد الطاغية : (( كيد كيدك , واسع سعيك , وناصب جهدك , فوالله لا تمحوا ذكرنا , ولا تميت وحينا … فالحمد لله الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة , ولآخرنا بالشهادة والرحمة)) ؟؟؟ .
هذا هو الدور البطولي الكبير الذي قامت به زينب , في لحظة تاريخية حالكة ومرحلة صعبة للغاية , فاستطاعت بذلك أن ترفع راية الثورة على مر الأجيال , وأن تفوت على يزيد وجلاوزته وعصاباته , أكبر مؤامرة حيكت في التاريخ الإسلامي , ضد رسالة رسول الله وآهل بيته وعترته الأطهار وشريعته السماوية .
ومن هنا أتوجه حقيقة وبصراحة .. إلى الذين لا يعرفون عن هذه المرأة العظيمة والصابرة والمؤمنة إلا الشيء اليسير من حياتها أو جانبا من جوانب حياتها ويغفلون عن الجوانب الأخرى المهمة.. ودورها الرئيسي في إحياء نهضة الإمام الحسين والتي تحملت كل المعانات الشاقة والرزايا العظيمة من أجل الحفاظ على هذه الرسالة الإلهية التي تحيي قلوب وضمائر الأحرار والمستضعفين في الأرض أينما كانوا في مشارقها أو في مغاربها .. من أجل ماذا تضحي ؟ وما هي الأهداف والمبادئ التي كانت تضحي من أجلها…؟ وكيف تحملت وصبرت ؟ وكيف حولت هذه الأحداث والبلايا التي حلت عليها وعلى أخيها وعلى أهل بيتها إلى نصر معنوي وإظهار الحق وإزهاق الباطل ؟ وما هي نظرتها المستقبلية إلى الأحداث المفجعة في كربلاء..؟؟؟ وغيرها من التساؤلات المحيرة ؟؟؟
وفي الختام … أقول إلى كل امرأة في مجتمعنا العربي والإسلامي أن تتخذ من زينب قدوة وأسوة حسنة , وتتخذ في حياتها دائما هذا الموقف الشجاع وأن لا تخاف من أي ظالم إن وجد في مجتمعنا وأن تؤدي رسالتها بأكمل وجه وأحسن صورة وأن تكون نموذجا وقدوة صالحة في المجتمع العربي والإسلامي وأن تغير الواقع المتخلف و السيئ إلى واقع أفضل مما كان عليه سابقا
الأستاذ أبو جواد حسين آل درويش