السخاوة الحسينيّة
السخاء خُلقٌ من أخلاق الأنبياء على نبيّنا وآلِه وعليهم أفضلُ الصلاةِ والسّلام , قال تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) . والرسولُ الكريمُ هنا هو موسى (سلام الله عليه) .
وقال تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) . وهنا المراد به المصطفى محمّد (صلَّى الله عليه وآلِهِ) الذي جمع الشمائلَ الشريفة كلَّها , وكان منها الكرم المادّيُّ والمعنويّ , في الأقوال والأفعال والصفات .
والسخاء خلُقٌ يُحبُّه الله (جلَّ وعلا) , ويدعو عبادَه إليه , فقال عزَّ مِن قائل : (وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا ِلأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) . وفي الحديث الشريف قال النبيُّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله) : (( خُلقانِ يُحبّهما الله , وهما حُسْنُ الخلُق , والسخاء )) .
ومع أنَّ السخاءَ من حُسْنِ الخلُق , إلاّ أنّه جاء مُميَّزاً معتنىً به , مُفرداً له لفظٌ , ومعدوداً من بين خلُقَينِ يُحبُّهما الله سبحانه وتعالى ؛ اهتماماً به .
وبين السخاء والكرم والجُودِ والسماحة مشتركاتٌ في المعنى وفروقات , نستطيع فهمَها بعد التأمّل في هذه الأحاديثِ الشريفة :
قال النبيُّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) : (( الرجالُ أربعة ؛ سخيٌّ وكريم , وبخيلٌ ولئيم ؛ فالسخيُّ الذي يأكلُ ويُعطي , والكريمُ الذي لا يأكلُ ويُعطي , والبخيل الذي يأكلُ ولا يُعطي , واللئيمُ الذي لا يأكلُ ولا يُعطي )) .
وسُئل الإمامُ الصادق (عليه السّلام) عن حدّ السخاء , فقال : (( تُخرجُ مِن مالِكَ الحقَّ الذي أوجبَه الله عليك فتضعُه في موضعه ))
وجاء عنه (سلامُ الله عليه) أيضاً أنّه قال : (( السخيُّ الكريم الذي يُنفقُ مالَه في حقٍّ )) .
ورُوي عن الإمام عليّ بن موسى الرضا (صلواتُ الله عليه) أنّه قال : (( السخيُّ يأكلُ مِن طعام الناس ليأكلوا من طعامه , والبخيلُ لا يأكلُ من طعام الناس لئلاّ يأكلوا من طعامه )) .
فالسخاء ليس في الإعطاء فحسب , بل في مقدِّماته أيضاً ؛ بأن يَمُدّ الرجلُ يدَه إلى طعامٍ يُدعى إليه ؛ تواضعاً لِما يُقدّم له , واستجابةً لدعوةِ الإخوان , وتشجيعاً لهم على أن يأكلوا من عنده , وكذا تشجيعاً لهم على الكرم . ألم نقرأ قولَ مولانا الإمامِ الحسين (سلام الله عليه) في مواعظه الشريفة : (( مَن قَبِلَ عطاءَك فقد أعانَكَ على الكرم )) .
أمّا الجُود , فيقول الشيخُ الجليل محمّد مهدي النراقيّ (رحمه الله) في بيانه :
اتّصافُه [المنفق] بالجود بقدْرِ ما تتّسع له نفسُه من قليلٍ أو كثير . وتختلفُ درجاتُ ذلك ؛ فاصطناعُ المعروف أمرٌ وراءَ ما تُوجبه العادةُ والمُروّة , وهو الجودُ بشرطِ أن يكون عن طيبةٍ من النفس , ولا يكون لأجلِ غرضٍ من خدمةٍ أو مدحٍ أو ثناء ؛ إذ مَن يبذلُ المالَ بعِوضِ المدحِ والثناءِ أو غيرِه فليس بجواد , بل هو بيّاعٌ يشتري المدحَ بماله ؛ لكونِ المدحِ ألذَّ عنده من المال .
فالجودُ هو بذلُ الشيء عن طيبة من القلبِ من غير غرض , فإذا لم يكن غرضُه إلاّ الثوابَ في الآخرة , ورفعَ الدرجات , واكتسابَ فضيلةِ الجود , وتطهيرَ النفسِ عن رذيلةِ البُخل سُمّي جواداً .
و أمّا في بيان السماحة فنُوردُ هاتينِ الروايتين :
قال أمير المؤمنين عليٌ لولده الحسن (سلام الله عليهما) : (( يا بُنيَّ , ما السماحة ؟ )) .
قال : (( البذلُ في العسر واليُسر )) .
وقال الإمام الصادق (عليه السّلام) : (( خيارُكم سمحاؤُكم , وشِرارُكم بُخلاؤُكم )) .
ثمّ قال (سلام الله عليه) : (( إنَّ صاحبَ الكثير يهونُ عليه ذلك (أي البِرّ) , وقد مدح الله (عزَّ وجلَّ) صاحبَ القليل فقال : وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ )) .
والإمامُ الحسين (صلواتُ الله عليه) يجمع كلَّ فضائل الكرم والسخاءِ , والجود والسماحة , ويضمُّ إليها مراقي الخصال والصفات الحميدةِ الطيّبة والأخلاق المحمودةِ , هذا ما حكتْه لنا سيرتُه الطاهرة .
فإذا كان السخاء من الإيمان ؛ لقولِ الرسول المعظّم (صلّى الله عليه وآله) : (( إنَّ السخاء من الإيمان )) , ولقولِه (صلّى الله عليه وآله) : (( إنَّ أفضلَ الناسِ إيماناً أبسطُهم كفَّاً )), فمَن ينافسُ الحسينَ (عليه السّلام) في ثبات إيمانه ورسوخه وشموخه ؟!
وإذا كان للسخاء معالم ؛ منها الابتداءُ بالأَوْلى , ومعرفةُ ما يجبُ بذلُه , والصدورُ عن طيبِ قلب , والإنفاق خالصاً لوجهِ الله تعالى , وما إلى ذلك , فمَنْ يزاحمُ الإمامَ الحسينَ (سلامُ الله عليه) في هذه المعارف والمعاني والحالات ؟!
لقد بذل (صلواتُ الله عليه) حتّى عُرِف أنَّه لا يخشى النفاد ؛ لأنَّه أحسنَ الظنَّ بالله تعالى ؛ إذ هو الرزَّاق ذُو القوَّةِ المتين . فكانَ (عليه السّلام) كما قال وكما دعا ؛ حيث ورد عنه (سلام الله عليه) في جملةِ حِكَمِه قولُه : (( إنَّ أجودَ الناسِ مَنْ أعطى مَنْ لا يرجوه )) .
ولقد أعطى مَنْ يئس من الناس , وأعطى فوق ما ينتظر المعسر . ولا تستغرب وهو القائل : (( مالُكَ إنْ لم يكنْ لك كنتَ له , فلا تُبقِ عليه ؛ فإنَّه لا يُبقي عليك , وكُلْه قبل أنْ يأكلَك ))
ولقد زهد (صلواتُ الله عليه) في الدنيا , وأحبَّ للناس أن يأخذوا منها حاجاتِهم , ولو أعطاهم مِن عنده ما يخلّفُ لديه خصاصة . فما أوفقَه (سلام الله عليه) مصداقاً لقول جَدِّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله) : (( ما جُبِلَ وليُّ الله إلاّ على السخاء . والسخاءُ ما يقعُ على كلِّ محبوبٍ أقلُّه الدنيا . ومِن علاماتِ السخاء أن لا يُبالي مَن أكلَ الدنيا , ومَن ملكها ؛ مؤمنٌ أو كافر , ومطيعٌ أو عاصٍ , وشريفٌ أو وضيع .
يُطعم غيرَه ويجوع , ويكسو غيرَه ويعرى , ويُعطي غيرَه ويمتنعُ من قبول عطاءِ غيره , ويُمَنُّ بذلك ولا يَمُنّ , ولو ملكَ الدنيا بأجمعها لم يرَ نفسه فيها إلاّ أجنبيّ , ولو بذلها في ذات الله (عزَّ وجلَّ) في ساعةٍ واحدةٍ ما ملء )) . أو في روايةٍ : (( ما مَلّ )) .
فالسخيّ مَن بذل ولم يخشَ الفقر , وأطعمَ غيرَه وجاع , وأعطى غيرَه وامتنع من قبولِ عطاءِ غيره إذا كان ذلك الغيرُ مُغرضاً , أو كان السخيُّ يخشى على نفسِه الطمع . إذاً فالسخاء ما حظيَ بخصلة العفَّة والإباء , فهذا من كرمِ النفس وعزّتِها .
ولقد ذَكَر لنا التاريخُ أنَّ الإمامَ موسى بن جعفرٍ الكاظم (عليه السّلام) قال : (( إنَّ الحسنَ والحسين (عليهما السّلام) كانا لا يقبلانِ جوائزَ معاوية بنِ أبي سفيان )) ؛ ذلك أنَّ معاويةَ كان يحاول بجوائزه أن يستميلَ الإمامين (عليهما السّلام) ـ وحاشاهما ـ ليقولا له بالإمامةِ الشرعيّة , والخلافة على المسلمين , وهيهات هيهات ذلك ! هذا من جهة .
ومن جهةٍ اُخرى كان يحاول أن يقول للناس : إنَّ الأئمَّةَ ـ حاشاهم ـ أهلُ دنيا ؛ ألا ترَونَ كيف يفرحون بالهدايا , ويطمعون بالعطايا , ويتنازلون بذلك عن شؤون الدين واُمور المسلمين ؟
قال محمّدُ بنُ طلحةَ الشافعيّ : وقد اشتهر النقلُ عنه (صلواتُ الله عليه) (أي الحسين عليه السّلام) أنَّه كان يُكرم الضيف , ويمنحُ الطالب , ويصلُ الرحم , ويُنيلُ الفقير , ويُسعفُ السائل , ويكسو العاري , ويُشْبع الجائع , ويُعطي الغارم , ويشدّ من الضعيف , ويُشفقُ على اليتيم , ويُعين ذا الحاجة , وقَلَّ أن وَصَلَه مالٌ إلاّ فرَّقَه .
ونُقل أنَّ معاويةَ لمَّا قدِمَ مكَّةَ وصله بمالٍ كثير , وثيابٍ وافرة , وكسواتٍ وافية , فردَّ الجميعَ عليه ولم يقبلْه منه , وهذا سجيّةُ الجواد , وشِنشنة الكريم , وسمةُ ذي السماحة , وصفةُ مَن قد حوى مكارمَ الأخلاق ؛ فأفعالُه المَتْلُوَّةُ شاهدةٌ له بصفةِ الكرم , ناطقةٌ بأنَّه متَّصفٌ بمحاسنِ الشِّيم .
ولقد أجاد مَن قال في مدح الأئمّة (عليهمُ السّلام) :
كرُموا وجادَ قبيلُهم مِن قبلِهم وبنوهُمُ مِن بعدهم كُرَماءُ
فالناسُ أرضٌ في السماحةِ والندى وهمُ إذا عُدَّ الكرامُ سماءُ
وكلُّ ما قيل في الكرم والسخاء , والجود والسماحة ينطوي في أخلاق الإمام الحسين (سلام الله عليه) ويصغر ؛ ذلك لأنَّ أخلاق الحسين (عليه السّلام) ـ ومنها الكرم ـ هي على أفضل النيّةِ وأصلحها , وأنورِ الحكمةِ وأعقلها .
ثمّ إنَّ الكرمَ الحسينيّ يشملُ كلَّ ما ورد من خصائصَ وفضائلَ يحملها السخاءُ والجود والسماحة , حتّى لَيتميَّز عن كرمِ الناسِ باقترانِه بأخلاقٍ اُخرى , ومعانٍ عُلْويَّةٍ اُخرى , ومحاسنَ شريفةٍ اُخرى . فهو كرمٌ مقترنٌ بخلُقٍ طيّبٍ آخر , وهو كرمٌ مع فضلٍ نافل آخر .
اسم الکتاب: الأخلاق الحسينية
اسم المؤلف: جعفر البياتي
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين