اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يقول المولى أمير المؤمنين (عليه السلام) بأرفع بيانٍ للتوحيد:
" إنّ أوّل عبادة الله معرفته " وهو بمعنى أنّ أرفع وأعظم عبادة لله هي معرفته.
مقام العمل متأخّرٌ عن المعرفة وليس قابلاً للمقايسة معها، فإنّ المعرفة هي قوام العمل، وأمّا العمل فليس كاشفاً عن المعرفة، وباصطلاح المناطقة، النسبة بين المعرفة والعمل هي نسبة العموم والخصوص مطلقاً، فليس كلّ عمل يكشف عن المعرفة في حين أنّ كلّ معرفة توجب عملاً، فلوْ حضرت المعرفة في وجود الإنسان لا بدّ أنْ توجب عملاً، ولكن ليس كلّ عمل يقوم به العامل كاشفٌ عن معرفة كامنة في وجوده.
ومن هنا تجد أنّ القرآن الكريم يربط بين المعرفة والعمل الصالح بقوله: { الذين آمنوا وعملوا الصالحات }
فالعمل الصالح هو الذي تكون له صلاحيّة الكشف عن صاحبه، وبعبارة أخرى يكون هذا العمل صالحاً للإخبار عمّا في باطن صاحب هذا العمل من المعرفة، فقيد الصّالح يشير إلى العمل الناتج عن المعرفة.
إن فعدم صدور العمل من العبد لا يؤدي إلى انتفاء العبودية، فالعبد عبدٌ ولو لم يصدر منه عمل، بل ولوْ صدر منه عمل مخالف لما يريده المولى منه يبقى عبداً، وأمّا عندما يتّصف العابد لله بوصف العابد لا بدّ أنْ يكون من أهل العمل، وعندما ينتفي العمل منه تنتفي منه حيثيّة عبادة الله.
إنّ تمام حركة العابد نحو المعبود هي إرادته الوصول إلى مرتبة يكون فيها عبداً لمولاه، بمعنى أنّ كلّ حركة العابد المريد لمولاه هي إرادته الوصول لهذا الانتجاب والاصطفاء الخاص، وهو العبوديّة والتي تكون ظاهرياً نتيجة لعبادته لمولاه، ولكن في بعض الموارد يشاهد أنّ شخصاً ما قبل الحركة الفعليّة والعمليّة وقبل أنْ يصل إلى أيّ مرتبة في العبادة، يُعطى له مقام العبوديّة ولوْ لمْ يقم بأيّ فعل من الأفعال العباديّة
" وأشهد أنّ محمداً عبدُه ورسولُه "
إنّ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أُعطي مقام العبوديّة ووصل إلى مقام الرسالة قبل أنْ يقوم بأيّ عمل أو حركة نحو مولاه، لا أنّ الله جعله تحت دائرة الامتحان والمقايسة مع كلّ أهل زمانه فوجده لائقاً لهذه المناصب باعتبار حيازته لصفات لمْ تكن موجودة في غيره من أهل زمانه.
لا ليس الأمر كذلك
لا يظن أحدٌ أنّ الله نظر في الناس، فوجد أنّ هناك شخصاً أكثر صدقاً وأمانةً من كلّ الناس، فانتخبه للرّسالة وللعبودية.
لا، ليس الأمر كذلك
يقول النّبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: " كنتُ نبيّاً وآدم بين الماء والطين "
بل قبل أنْ ينتقش نقش الخلق، ظهرت نبوة النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لشهادة العقول أنّ كلّ صفة وموصوف مخلوق، فوجوده (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس في مرتبة الصّفة والموصوف بل هو فوق هذا
وهو قول الله عزّ وجلّ في كتابه الكريم: { إنّي جاعل في الأرض خليفة }
فإنّ الجاعل غير الخالق، والجعل غير الخلق بالمصطلح القرآني والروائي.
روي عن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: " يا علي إنّ الله تبارك وتعالى كان ولا شيء معه فخلقني وخلقك روحين من نور جلاله، فكنّا أمام عرش ربّ العالمين نسبّح الله ونقدّسه ونحمده ونهلّله، وذلك قبل أنْ يخلق السماوات والأرضين؛ ثمّ قال: فما زال ذلك النور ينتقل بين أعين النبيّين والمنتجبين حتّى وصل النور والطينة إلى صلب عبد المطلب فافترق نصفين، فخلقني الله من نصفه واتخذني نبياً ورسولاً، وخلقك من النصف الآخر فاتخذك خليفة ووصياً ووليّا "
لقد كان نبيّاً قبل أنْ يوجد الوجود العنصري، وقبل أنْ يتم التولّد من الأب والأم وقبل أنْ يكون أيّ خلق، وبالإمكان أنْ ترتقوا إلى أكثر من هذا!!
روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " إنّ الله عزّ وجلّ خلقني وخلق عليّاً وفاطمة والحسن والحسين من نور واحد فعصر منه عصرة فخرج منه شيعتنا فسبّحنا فسبّحوا وقدّسنا فقدّسوا وهلّلنا فهلّلوا ومجّدنا فمجّدوا ثمّ خلق تعالى السموات والأرض وخلق الملائكة فمكثت الملائكة لا تعرف تسبيحاً ولا تقديساً لما رأونا سبّحنا وقدّسنا وهلّلنا ومجّدنا وتبعنا شيعتنا سبّحت الملائكة وقدّست تبعت بذلك، فنحن الموحّدون حيث لا موحّد غيرنا، فحقيق على الله عزّ وجلّ بما اختصنا واختص شيعتنا أن يزلفنا وشيعتنا في أعلى عليين إنّ الله اصطفانا واصطفى شيعتنا من قبل أن نكون أجساماً فدعانا فأجبناه فغفر لنا ولشيعتنا من قبل أن نستغفر الله عز وجل "
وورد عن الإمام الصّادق (عليه السلام): "سبّحنا فسبّحت الملائكة، وهللنا فهللت "
فالملائكة إنمّا تعلمت عبادة الله منّا أهل البيت، ولكنّ الملائكة، مع كلّ المنـزلة التي لهم عند الله، هم فقط عابدون لله وليسوا عبيداً وليس لهم منصب العبودية، بل هو منصب مختصّ بالبشر من خلق الله.
الملَك ليس عبداً، وإنْ كان جبرائيل، ولا يقتضي نحوُ وجوده العبوديّة للحقّ؛ وحده محمدٌ (صلى الله عليه وآله وسلم) هو عبد الله، ولهذه العبوديّة معنى وتحقق فقط في النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).
يا رسول الله! إنّ الله جعل في وجودك لياقة وشرف العبوديّة، فيمكنك أنْ تقول يا الله أنا عبدك وتترنّم بهذا الشرف العظيم؛ وأمّا الملَك فليس في وجوده اقتضاء العبودية، بل له اقتضاء العبادة على أقسامها وأنحائها، حيث تجد فئةً من الملائكة لها اقتضاء الركوع من أوّل خلقتهم إلى آخرها، وفئة أخرى لها اقتضاء السّجود ولياقته من أوّل خلقتهم إلى آخرها.
الشّيطان إنّما نـزل إلى الأرض وصار من المرجومين لأنّه كان يعبد الله ولمْ تكن العبوديّة متحقّقة في وجوده، وأمّا النّبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا ينـزل ولا يقع لأنّه متحقق بالعبوديّة في تمام وجوده.
إنّ الله خلق البشر للعبوديّة لا للعبادة، ولوْ كان للعبادة أيّ قيمة، فهي لأجل أنْ يصل الإنسان إلى العبوديّة، وإلاّ فلا تطرح العبادة أصلاً في الوجود البشري.
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): " إنّ أوّل عبادة الله معرفته "
أوّل العبادة هي المعرفة، فلا بدّ أنْ تعرف الله أوّلاً، حتّى يمكنك أنْ تقطع الطريق للوصول إلى عبوديته، ولكن لا تنخدع بالعبادة وتظنّها الغايّة والمقصد، فالمخدوع كلّ المخدوع من خُدع بعبادته، ولنْ تجد مخدوعاً أكثر منه.
أنت قلّما تجد عملاً لا يؤدّي إلى العجب والرياء، فالعمل هو الذي يجعل العابد يقف في قبال الحقّ تعالى ويقول له إنّي عملت وفعلت، وهو نفس ما فعله الشيطان حيث وقف في قبال الحقّ تعالى بعدما عبد ما عبد وقال له: { خلقتني من نار وخلقته من طين }
فأنا (والقول قول الشيطان) منذ أنْ خلقتني أقوم بعبادتك يا الله، ومنْ ثمّ تأتي لي بمخلوق قد خلقته للتوّ، وتأمرني أن أسجد له؟!
فأبعده الله ممّا كان فيه، وأنـزله إلى تلك الدار.
فالملك لا يعلم ما هو العشق وما هي العبودية؟
ولا يعلم ما هي طبيعة اللذّة الموجودة في العبوديّة من العشق والمحبّة، وليس فيه اقتضاء العشق والعبوديّة حتّى يدرك حقيقتهما، فأقصى مراد الملك هو عبادة الله، ولذّته كامنة في هذه العبادة لا غير، وهو نابع من مقدار معرفته بالحقّ تعالى.
عندما وسوس الشيطان لآدم وحواء { فَوَسْوَسَ لَهُما الشَيْطانُ }
كان يريد أنْ يحملهما في طريق العبادة، ويسلب منهما طريق العبوديّة وحقيقتها، وإلاّ لو أنّهما مع ما هما فيه من العبوديّة الكامنة في ذواتهما استفادا وأكلا من نفس تلك الشجرة المنهيّة عنها، لما أخرجهما الله من الجنة التي كانا فيها، ولكن حيث لم ينظرا إلى العبودية، بل نظرا إلى حيثيّة العبادة، كان أمر إخراجهما من الجنة التي كانا فيها، فاشّتما رائحة الشيطان بمجرد أنْ أقدما على تلك الشجرة، وهذه الرائحة كانت في الواقع صادرة من وجوديهما، أيْ أنّ رائحة الشيطان كانت صادرة من قلبيهما باعتبار أنّهما خُدعا بذاك الشخص، وهو الشيطان، الذي كان من أهل الورع والنسك والعبادة فاعتبرا أنّ هكذا شخص لا يمكن أنْ يتكلم بكلام كاذب وخادع، ومن هنا تجدون أنّ أكثر ما يُخدع بهم الناس أناسٌ من أهل النسك والعبادة والزهد.
قد تقول أنّ أشخاصاً متقدّسين من أهل العمل والخير، مع ما لهم من سوابق في إظهار التديّن برسومه الظاهرية، لا يمكن أنْ نشتبه في أمرهم، فقد قضى هؤلاء سنوات طويلة في الحوزات وحصّلوا ما حصّلوا من العلوم الدينية، فهل يمكن لهؤلاء أنْ يكونوا خدّاعين؟ إنّ هذا غير معقول!!
عندما قال الله تعالى: { إنّي جاعِلٌ في الارْضِ خَليفَةً } قالت الملائكة له:
{ قالوا أَتَجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها وَيَسْفِكُ الدِّماء }
إلهي ها نحن عاكفون على عبادتك، ونحن من أهل العمل لك، فهل يمكن أنْ تأتي بهكذا موجود لمْ يقم بأيّ عمل حتّى الآن وتولّيه كلّ هذه الأرض بل وتولّيه علينا أيضا؟!
يأتي جواب الله لهم أنّه وإنْ كان الأمر كذلك، فإنّي أريده وإنْ لم يقم بأيّ عمل على الإطلاق.
الملك يقول: إلهي وكيف يمكن أنْ تولّيه والحال أنّه من أهل الفساد وسفك الدماء
وهو قول الله تعالى: { أَتَجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها وَيَسْفِكُ الدّماءُ }؟!!
كلّ أولئك الذين يخدعون إنّما يخدعون بما يعمله الآخرون من أعمال وعبادات، فليس الميزان كثرة العبادة ولا ينبغي أنْ يُخدع المرء بعبادة الإنسان وزهده وظاهر تديّنه.
والروايات متضافرة في هذا المضمون عن الأئمة (عليهم السلام).
أمير المؤمنين (عليه السلام) يصرّح بهذه الحقيقة، والإمام الصادق (عليه السلام) كثيراً ما كان يؤكّد على هذه المسألة وهي أنّ المرء لا يُعرف بطول سجوده وصيام نهاره، بل يُعرف بصدق الحديث وأداء الأمانة، كما ورد ذلك في صفات الشيعة؛ ولكن لا تظن أنّ الأمانة هي ردّ المال تاماً بعد أخذه، بل الأمانة هي ما أشير إليه في قوله تعالى: { إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ عَلَى السّمَواتِ والأرْضِ والجبال }
بل الأمانة هي أمانة القرآن وهي الولايّة لآل محمّد صلوات الله وسلامه عليهم.
لا يظن الإنسان أنّ الأمانة التي هي مورد النظر هي العمل الذي يؤديه الإنسان، بلْ الأمانة هي الولاية، ولا تقاس الولاية بالعمل وليست حقيقة الولاية ورسمها بالعمل، فحريّ بك أيّها الموالي أنْ تبحث وتحقق في تلك الأمانة، وما هي حقيقتها وطبيعتها؟
وأمّا صدق الحديث الذي يتحدث عنه الإمام (عليه السلام)، أنّ الشيعي إنّما يعرف بصدق الحديث وأداء الأمانة، فهو بمعنى أنّ الشيعي عندما يتحدث إنّما يتحدث بما يأخذه منّا أهل البيت على فهم ودراية، وهذا هو الصدق.
فالحديث الذي يتكلّمه الشيعي إنّما يكون صدقاً إذا نقله على ما هو عليه عن الأئمة عليهم السلام، فيكون بذلك مصداقاً لذاك الحديث الوارد عن الأئمة عليهم السلام ومتحققاً به، وإلاّ فإنّ صدق الحديث المتعارف معروف لدى الناس ولا يختصّ بالشيعي دون غيره.
حاذر أيّها الموالي أنْ تنخدع بعمل الغير وتجعله ميزاناً ومعياراً على الحقّانية، ولا تظن أنّ الموازين المتعارفة عند الناس من صدق الحديث وأداء الأمانة وما شابه هي موازين الولاية، فإنّ شأن الولاية الكليّة الجارية في الخلق غير ما يعرفه الناس، ومن هنا ينبغي على الإنسان أنْ يتعرف على حقيقة الولاية وحقيقة صدق الحديث وأداء الأمانة وغيرها من مفاهيم الولايّة وشؤونها.
التوحيد الشهودي سماحة العارف الكامل السيد أحمد الموسوي النجفي