اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عدد ما أحـاط به علمك و أحصاهـ كتابك
لقد كان المسلمون على علم بمكانة علي عند رسول الله ، وأنّه المخصوص بالنص لخلافته ، إلا أنّ هذا الوضع العام تبدل إلى وضع خاص، وهذا التبدل لا يحدث فجأة، بل هو مرهون لعدة عوامل تصنعه:
1 ـ حالة الفراغ بين الأفكار البنّاءة والهدّامة حيث تولد بدورها زعزعة في أفكار الأمة (الجماهير)، فتحتاج صياغة العناوين إلى أصول مبدئية ذات علاقة جذرية في فكر الأفراد.
ولقد امتدت حالة الفراغ إلى خلافة أمير المؤمنين ، ومن أمثلة ذلك: أنّ الحرث بن حوط أتى أمير المؤمنين فقال: أتراني أظن أصحاب اجمل كانوا على ضلالة؟!
فقال : "يا حارث، إنّك لملبوس عليك، إنّ الحق والباطل لا يعرفان بأقدار الرجال، اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله".
ولا نستغرب حينئذ أنّ حالة الفراغ كانت أيضاً في زمن الرسول الأكرم عند أناس لم يتحركوا مع الرسالة إلا في أفق المصلحة والمنفعة.
ففي رواية عن أبي بصير عن أبي عبد الله قال: "ارتد الناس إلا ثلاثة أبو ذر، وسلمان، والمقداد"، والذي يظهر منها ما يعيشه أغلب المسلمين آنذاك من حالة الفراغ، وتميع البصيرة في فكر الكثير من المسلمين.
2 ـ إنّ هذا الحدث يؤشر إلى وجود انقلاب حزبي ذات رموز تنظيمية معارضة في منهجها وأطروحتها لمنهج الرسالة، وقد سبق تنظيمه في عهد الرسول نفسه.
3 ـ كانت في المدينة كتيبة مؤمنة وهي كتلة الأحرار ـ وهم القلة ـ إلا أنّها متصادمة بكتلة من المثبطين والانهزاميين ـ وهم الكثرة ـ ولهذا كان لخضوع بعض الأفراد وخنوعه مبرراته على صعيد الفرض الاجتماعي.
ولقد أشار الإمام الصادق إلى هذا الخضوع بقوله: "ما بقي أحد إلا جال جولة إلا المقداد بن الأسود فإنّ قلبه كان مثل زبر الحديد".
نعم، لقد تأثرت الصفوة المؤمنة بمثل هذه الظروف الضاغطة، وداخلتهم الشكوك والظنون، مما يعكس الصورة المأساوية بعد رحيل الرسول الأكرم .
وما كان علي ليستطيع أن يقوم بالأمر، فكان للزهراء حق امتلاك المبادرة حيث إنّ لها الإرادة والقوة الحاكمة على ترتيب صيغ القبول، وإعادة ميزان القوي.
ولم تستخدم الزهراء الحوار المباشر في قضيتها الأم، بل استخدمت طريقة ما تسمى بلعبة الكرة والشباك، فقدمت قضية فدك، وكانت هي الكرة التي تريد من خلالها أن تضع الحزب المعارض في الشباك، وتبين للرأي العام أي لعبة وتكتيك قام به الحزب المعارض لشل حركة الإمامة وتطويقه، وانتزاع كل ما له صلة في قوته ضدهم.
وعندما نريد أن نكشف أنّ هذه اللعبة لعبة سياسية، وليس لها مساس بقضية ميراث النبي ، وأنّ الأنبياء لا يورّثون ما خلّفوه من مال بل يورّثون العلم، فلتقرأ هذا النص: جاءت عائشة وحفصة، ودخلتا على عثمان أيام خلافته، وطلبتا من أن يقسّم لهما ارثهما من رسول الله، وكان عثمان متكئاً، فاستوى، وقال لعائشة: أنت وهذه الجالسة جئتما بإعرابي يتطهر ببوله، وشهدتما أنّ رسول الله قال: "نحن معاشر الأنبياء لا نورّث" فإذا كان حقيقة أنّ رسول الله لا يورّث فماذا تطلبان بعد هذا ؟ وإن كان رسول الله يورّث فلما منعتم فاطمة حقها؟ فخرجت عائشة من عنده غاضبة، وهي تقول: اقتلوا نعثلاً فقد كفر.
وكونهم يريدون انتزاع كل ما له صلة في تقوية شأن الإمامة فهذا أمر واضح حيث إنّ فدكاً لم تكن نخلاً عادياً، بل كانت قرية لسعتها وما يجري فيها من الخيرات، وكان إيرادها سنوياً سبعين ألف دينار، والدليل على ذلك أنّ الزهراء أوصت بحوائطها السبعة ـ غير فدك ـ إلى أمير المؤمنين حيث قالت: "هذا ما أوصت فاطمة بنت رسول الله بحوائطها السبعة: الحسنى، والصافية، والدلال، والعوان، والبرقة، والميثب، وما لأم إبراهيم، إلى علي بن أبي طالب، ومن بعد علي فإلى الحسن، ومن بعد الحسن فإلى الحسين، ومن بعد الحسين فإلى الأكبر من ولدي".
ويظهر أنّ هذه الأموال لم تكن تدخل في موضوع النزاع الذي حدث بين السيدة الزهراء وبين أبي بكر، فقد كان النزاع خاصاً بخيبر وفدك.
والمعلوم أن هذه الحوائط ـ بما فيها خيبر وفدك ـ لم تكن الهبة الوحيدة للرسول ، بل وهب أمثالها لبعض أصحابه قبل فدك.
فقد أعطى أبا بكر من أراضي بني النضير أرضاً تسمى (بئر حجر)، وأعطى عمر (جرم)، وأعطى عبد الرحمن (سوالة)، وأعطى الزبير بن العوّام (بويلة)، وأعطى صهيب بن سنان (ضراطة)، وأعطى سهل بن حنيف وأبا دجانة الأنصاري أرضاً أخرى.
فلماذا تؤخذ فدكاً ولا تؤخذ بقية الهبات؟!
وازداد الأمر سوءاً بعدما تكشفت الأمور عن مؤامرة خفية للإطاحة بزوجها أمير المؤمنين .
يقول الإمام الصادق : "..فبعثت أسماء بنت عميس ـ أم محمد بن أبي بكر ـ خادمتها؛ فقالت: اذهبي إلى فاطمة فاقرئيها السلام، فإذا دخلت من الباب فقولي: ﴿إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إنّي لك من الناصحين﴾، فإن فهمتها وإلا فأعيديها مرة أخرى..
ومن هذا النص نستفيد ما يلي:
1 ـ اهتمام الزهراء بوضع استخبارات داخلية وأمنية ضمن الحزب المعارض لكشف مخططاته.
2 ـ الاهتمام بوسائل ومصادر جمع المعلومات عن طريق العمل الاستخباري.
3 ـ الاهتمام بطريقة أساليب نقل المعلومات للمحافظة على سرّية الموضوع كاستخدام أسلوب (الشيفرة).
وهذا يؤكد لنا أنّ للزهراء وعياً استراتيجياً في إدارة شؤون القضايا السياسية واستخدام أو توظيف الوسائل المشروعة لاقتناص الأحداث الدقيقة.
وكان على الزهراء أن تقوم بعملها الجليل والخطير، ومن خلال عدة قنوات: المطالبة بفدك ولكي يكون لكلمتها دوي، ولبرنامجها العملي تألق دعت إلى إقامة مؤتمرها في مسجد رسول الله أمام جموع المصلين وحشود المسلمين.
ومعلوم أنّ الزهراء لم تتحرك بذهنية أنّ فدكاً ذات مساحة معينة وفي موقع معين، بل فدك المثال الصغير للمثال الكبير.
ولكي تكون لهذه الظلامة صدى في نفوس الجماهير المحتشدة في مسجد رسول الله لا بدّ للزهراء أن تهزّ وجدانهم بخطبة نبوية تذكرهم بعمق ثقافتها وانتمائها، وأنّها لا تفرغ منطقاً ومخبراً إلا عن منطق ومخبر أبيها . فحركت الأذهان الذي غطّاها الغبش، وأزالت عن أعينهم تلك الغشاوة البهيمية، وتذكروا مع هذه الخطبة معالم الرسالة التي كادت أن تنسى، فسمعوا من فيها جلجلة الحق المحمدي ورحيق النبوة الندي.
ولقد سجلت الزهراء عدة نقاط لصالحها:
1 ـ إحراج الحزب المعارض، وتنكّره للحقائق الدامغة.
2 ـ تسجيلها لهذه الظلامة المدوية بحيث لا يمحى أثرها في صفحات التاريخ، وأنّ قيامها كان لأساس مقدس.
3 ـ أعطت السائرين دافعاً قوياً وهو أنّه إذا كان ثمة عجز في إسقاط الباطل من جهة ما فثمة القدرة على فضحه وتعريته أمام الرأي العام.
4 ـ أعطت الدليل الصريح على أنّ المرأة قد تكون أقدر من الرجال في بعض المواقف الحاسمة.
ولقد ترهل الحزب المعارض أمام وعي الحاضرين، فوقع بين الناس من الاختلاف والهمهمة، وخاف أن تنعكس القضية .. يقول ابن أبي الحديد:
فلما سمع أبو بكر خطبتها شقّ عليه مقالتها، فصعد المنبر، وقال: ما هذه الرِّعة إلى كل قالة، أين كانت هذه الأماني في عهد رسول الله ألا مَن سمع فليقل، ومَن شهد فليتكلم، إنّما هو ثعالة شهيدة ذنبه، مُرِب لكل فتنة، هو الذي يقول كروهاً جذعه بعدما هرمت، يستعينون بالضعفة، ويستنصرون بالنساء، كأم طحال أحبّ أهلها إليها البغي، ألا إنّي لو أشأ أن أقول لقلت، ولو قلت لبحت، إنّي ساكت ماتركت، ثم التفت إلى الأنصار فقال: قد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائكم وأحق من لزم عهد رسول الله أنتم، فقد جاءكم فأويتم ونصرتم، ألا إنّي لست باسطاً يداً، ولا لساناً على من لم يستحق ذلك منا.
قال ابن أبي الحديد: "قرأت هذا الكلام على النقيب أبي يحيى جعفر بن يحيى بن أبي زيد البصري، وقلت له: بمن يعرّض؟
فقال: بل يصرح.
قلت: لو صرّح لم أسألك.
فضحك وقال: بعلي بن أبي طالب .
قلت: هذا الكلام كله لعلي يقوله!
قال: نعم، إنّه المُلك يا بني.
قلت: فما مقالة الأنصار؟
قال: هتفوا بذكر علي فخاف من اضطراب الأمر عليهم، فنهاهم".
وتصاعد الموقف إلى أنّ حرّم أبو بكر إعطاء الزهراء عطاءها من بيت المال تلك السنة، وكان ذلك انتصاراً معنوياً للزهراء .