- المدرسة الكلامية:
نشأت هذه المدرسة وترعرعت ونضجت في أحضان الفكر الإسلامي. ويمكن تلخيص الوظائف الأساسية لهذه المدرسة في النقاط الأربعة الآتية:
- تبيين «أصول الدين» وتمييزها عن غيرها من التعاليم الإسلامية.
- إثباتها بالأقيسة العقلية حتى لو كانت جدلية.
- الدفاع عنها ومواجهة ما يحوم حولها من الشُّبُهات والشكوك.
- إفحام الخصم بصحتها وإلزامه بها.
إن المدرسة الكلامية لم تستطع أن تؤسس منظومة عقلية كاملة ومنسجمة ومتقنة قادرة على توفير الغطاء العقلي لكل الظواهر الدينية المتعلقة بـ «أصول الدين». ويرجع السبب الأساسي إلى اعتبار الظواهر الدينية غنية عن التفسير والنقد، والاستعانة لأجل ذلك بأي وجه عقلي لإثبات تلك المدعيات من قبيل المبادئ غير اليقينية من مسلّمات ومشهورات ومتخليات ومظنونات وغير ذلك. من هنا اتُّهمت المدرسة الكلامية عامة أن المنهج المتبع في إثبات مدعياتها هو الجدل لا البرهان.
2- المدرسة العرفانية:
تُبيِّن هذه المدرسة أن الطريق والمنهج الصحيح لمعرفة الله تعالى ومشاهدته، والوقوف على حقائق هذا العالم على ما هي عليه. ينحصر بلوغ ذلك بالطريق القلبي والمجاهدة والرياضة المعنوية. والسبب في ذلك يعود لأمرين:
- الأمر الأول:
إن احتمال الخطأ والاشتباه قائم على أي حال في طريق التعقّل. وهذا الأمر لا يفيد النفس شيئاً تستريح إليه وتسكن له.
- الأمر الثاني:
إن غاية ما يستطيع العقل أن يدركه من العالَم وخالقه هو المفاهيم فقط دون الحقائق.
وهناك اتجاهان ضمن هذه المدرسة للتعامل مع العقل والاستدلال العقلي، هما:
- الأول:
هو الاتجاه المتطرِّف الذي ينكر أي دور للاستدلالات العقلية في مجال الكشف عن الحقائق الوجودية. ومن أتباع هذا الاتجاه: بايزيد البسطامي والحلاّج.
- الثاني:
هذا الاتجاه وإن كان يعتقد أن تفسير الوجود ونظامه وتجلياته لا يتم إلا على أسس المكاشفة والشهود، إلا أنه يسمح للعقل بصياغة هذه المكاشفات ضمن نظرية متكاملة وبقوالب استدلالية عقلية لإثبات صحة المنهج القلبي في الوصول إلى الحقيقة، وهو العرفان النظري. ومن أتباع هذا الاتجاه: محيي الدين ابن عربي.
تركَّز هذه المدرسة على العرفان العملي، وهو الذي يتعهد تفسير وبيان مقامات العارفين ودرجات السالكين إلى القرب الإلهي بقدم المجاهدة والتصفية والتزكية والعمل على ذلك.
3- المدرسة المشائية:
تمتد جذورها إلى أرسطو، وتمتاز بعدة خصائص، أهمها:
- المنهج والأسلوب العقلي في تحقيق مسائلها.
- الموقف السلبي تجاه أصول المكاشفة والشهود، حيث لم تؤمن بمعطيات هذه الأصول.
- الإيمان بمقولاتها التي انتهت إليها من خلال أصولها العقلية وقواعدها المنطقية، سواء طابقت ظواهر الشريعة الإسلامية أم لا.
ولكن في هذا المجال لا نستطيع أن نطلق هذه الدعوى، لأن جميع الفلاسفة الإسلاميين كانوا بصدد التطبيق بين المقولات الفلسفية التي يؤمنون بها وبين معطيات الشريعة الإسلامية.
ويمكن القول:
إن المدرسة المشائية لم يحالفها التوفيق كثيراً في هذا المجال، وبالأخص في البحوث المرتبطة بعلم النفس الفلسفي وعلم المعاد، وكذلك ما يرتبط بالنشآت الوجودية التي سبقت العالم المشهود.
وضمن هذه المدرسة يجب التفريق بين المتأخرين والأوائل أمثال «أبو نصر الفارابي» الملقّب بـ «المعلِّم الثاني» و«أبو علي بن سينا» الملقّب بـ «الشيخ الرئيس» حيث استطاع هذان العَلَمان تطوير كثير من الأصول الفلسفية وتميزوا عن المتأخرين من المشائين بالقرب من الفلسفة المتعالية وكانت أول تسمية للحكمة المتعالية من قبل ابن سينا.
4- المدرسة الإشراقية:
تُعدّ هذه المدرسة امتداداً للاتجاه الأفلاطوني في الفكر اليوناني، ويُعدّ شيخ الإشراق السهروردي المقتول زعيماً لهذه المدرسة في العصر الإسلامي.
وأما العناصر الأساسية لفلسفة هذه المدرسة، فهي:
- إنها بالإضافة إلى اعتماد الكشف لدرك العلوم الإلهية والمعارف الحقيقية، فإنها تقبل الاستدلال العقلي المبني على مقدمات برهانية يقينية. ومن هنا تُعدّ الفلسفة الإشراقية فلسفة استدلالية سلوكية. وهذا بخلاف المدرسة العرفانية التي ترفض الاستدلال العقلي رفضاً قاطعاً في الكشف عن حقائق الوجود.
- اعتمادها في الوصول إلى رؤية كونية عن الوجود ونظامه على التأكيد والحثّ على لزوم التمسك بالكتاب والسُّنّة وعدم تخطيهما وتجاوزهما.
إن المدارس السابقة، المشائية والكلامية والعرفانية، كانت أحادية وتدور حول محور واحد وأصل فارد، إما المشاهدة والمكاشفة أو العقل والاستدلال أو ظواهر الكتاب والسُّنَّة، وهذا ما لم تقع فيه المدرسة الإشراقية، إذ استطاعت أن تنطلق من هذه المنابع جميعاً في اكتشاف رؤيتها عن الكون والحياة.
ولكنها لم تستطيع أن تؤسس منظومة فلسفية عقلية متقنة تكون قادرة على إثبات كل تلك المدعيات.
لقد شكّلت فلسفات هذه المدارس المباني والأركان للفلسفة المتعالية بعد أن عرّاها صدر المتألّهين عن سلبياتها وتطرّفاتها. فاختار منها ما هو الحقّ بعد أن درسها دراسةً عميقةً وموضوعية. ثمّ تأمل في الوجود تأمّلاً مستقلاً عن جميع هذه الاتجاهات، فاكتشف طريقةً جديدةً في التفكير أفْضَت إلى أصولٍ جديدةٍ في الحكمة والعلوم.
مهّد صدر المتألّهين لهذا كلّه برياضاتٍ قلبيةٍ وعباداتٍ خالصةٍ هيّأت قلبه وجعلته مستعدّاً لتلقي العلوم الحقيقية ومكاشفة الواقع.
... فكانت مدرسة الحكمة المتعالية.
- مدرسة الحكمة المتعالية
من أهم مميزات هذه المدرسة أنها استطاعت التوفيق بين القرآن والعرفان والبرهان، لا أنها قامت بالتلفيق بين الأصول الفلسفية المشائية، والقواعد التي ذكرها العرفاء في العرفان النظري، والمباني التي أسسها المتكلِّمون في أبحاثهم الكلامية، بحيث تنتهي الحصيلة إلى أن تكون الحكمة المتعالية مدرسة مُلفّقة من جميع هذه المدارس.
فعلى مستوى العقل والقلب تعتبر هذه المدرسة أنه لا غنى للإنسان الطالب للحقيقة بأحد الطريقين عن الطريق الآخر، إلا أن الدائرة التي يقول فيها العقل والاستدلال العقي كلمته تختلف عن تلك التي يقول فيها العرفان والمكاشفة كلمتهما، فليس أحدهما في عرض الآخر حتى يقع التنافي والتضاد بينهما، وإنما يأتي دور المكاشفة حين ينتهي دور العقل.
يقول صدر المتألهين: «لا يجوز في طور الولاية ما يقضي العقل باستحالته، نعم يجوز أن يظهر في طور الولاية ما يقصر العقل عنه، بمعنى أنه لا يدرك بمجرد العقل، ومن لم يفرِّق بين ما يحيله العقل وبين ما لا يناله، فهو أخسّ من أن يخاطب...» (الرسائل، ص 283).
وأما على مستوى موقع القرآن والتراث الروائي فهي تعتبر بمثابة أصول عقلية برهانية في هذه المدرسة، بسبب أن هذه المعطيات صادرة عن مبدأ العقل والوجود والحجج المعصومين عن الخطأ والزلل. فهي قضايا يقينية وضرورية لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
إذاً، النقطة الأساسية المحورية هي تَطابُق الشرع والعقل والكشف في جميع المسائل الحكمية.
- الخطوط العريضة لفلسفته
لقد أوجدت فلسفة صدر المتألهين تحولاً جذرياً في عالم الفلسفة الإسلامية، تمخضت عنها نتائج باهرة في حقل العقائد. أما الأصول التي صاغ عليها صدر المتألهين فلسفته فهي:
أ – ما يتعلّق بالأمور العامة من الوجود
1 – أصالة الوجود واعتبارية الماهية:
تُعتبر هذه المسألة والمسألة اللاحقة لها الركنَيْن الأساسيين اللذين انطلق منهما صدر المتألهين لبناء منظومته الفلسفية.
والمقصود من أصالة الوجود واعتبارية الماهية: هو أن ما ندركه في الخارج هو شيء واحد، ولكن العقل يحلّله إلى حيثية مختصة وحيثية مشتركة فينتزع مفهومَيْن اثنين، كل منهما غير الآخر مفهوماً وإن اتحدا مصداقاً، وهما الوجود والماهية. فالوجود هو الأصيل والماهية هي الاعتبارية.
2 – إن الوجود حقيقة واحدة مشككة:
وقع الكلام بين الفلاسفة والعرفاء أن حقيقة الوجود هل هي واحدة أو كثيرة؟ بناءً على أصالة الوجود، نجد عدة أقوال:
ً – إن حقيقة الوجود واحدة ولا توجد فيها أي كثرة. وهذا هو القول بـ «وحدة الوجود الشخصية» المنسوب إلى العرفاء.
ً – إن الوجود والموجود كثير حقيقة، وإن هذه الوجودات حقائق متباينة. وهذا هو المنسوب إلى المدرسة المشائية.
ً – إن الوجود واحد والموجود كثير، وهو المنسوب إلى المدرسة الإشراقية.
ً – إن الوجود في عين وحدته كثير، وفي عين كثرته واحد. بعبارة أخرى: إن الوجود حقيقة واحدة لها مراتب مشككة وهذه هي النظرية التي اختارها صدر المتألهين.
3 – إثبات الإمكان الفقري في قبال الإمكان الماهوي.
4 – بيان مناط احتياج المعلول إلى العلّة، وأنّه كامن في وجوده.
5 – بيان كيفية ارتباط المعلول بالعلّة، وأنه بنحو الوجود الرابط القائم في غيره، لا بنحو الوجود القائم في نفسه كما تقوله المدرسة المشائية.
6 – إثبات الحركة الجوهرية في العالم المادي، وأن الحركة لا تختص بالمقولات العرضية كما هو المشهور بين الفلاسفة قبل الشيرازي.
7 – بيان كيفية ارتباط الثابت بالمتغيِّر، هذه المسألة التي كانت تُعدّ من المسائل المعقّدة في التفكير الفلسفي.
8 – إثبات الحدوث الزماني للعالم المادي، وهي من المسائل الأساسية التي وقع فيها النزاع بين الفلاسفة والمتكلمين.
ب- ما يتعلق بالمبدأ
1 – إثبات وجوده تعالى عن طريق برهان «الصديقين»، وله تقريب خاص لهذا البرهان.
2-إثبات أنّه تعالى بسيط الحقيقة كلّ الأشياء. يقول صدر المتألهين: إن الواجب تعالى هو المبدأ الفيّاض لجميع الحقائق والماهيات، فيجب أن تكون ذاته تعالى مع بساطته وآحديته كلّ الأشياء بنحوٍ أعلى وأشرف، فالبسيط الحقيقي من الوجود يجب أن يكون كلّ الأشياء وليس بشيءٍ منها.
3 – تحقيق عميق يتعلّق بعلم الحق تعالى التفصيلي بالأشياء قبل إيجادها، من خلال القاعدة الفلسفية السابقة: «بسيط الحقيقة كل الأشياء وليس بشيء منها».
ج- ما يتعلق بعلم النفس الفلسفي – الإنساني
1 – إثبات اتحاد العقل والعاقل والمعقول.
2 – إثبات أن النفس جسمانية الحدوث وروحانية البقاء.
3- إثبات أن القوة الخيالية مجردة عن المادة.
4 – إثبات أن النفس في عين وحدتها هي كل القوى.
5 – نظريته في كيفية وجود المفاهيم الكلية.
د- ما يتعلق بالمعاد
1 – بطلان التناسخ الملكي.
2- إثبات المعاد الجسماني.
3 – إثبات أن الإنسان ليس نوعاً أخيراً، بل هو مختلف الحقيقة في الباطن، وهي نظرية تجسم الأعمال.
4 – إثبات خلود الكفار في العذاب والآلام.
- طرق تحصيل المعرفة وأدواتها
يرى صدر المتألهين أنّ المعرفة تحصل من طريقين:
- الأول: طريق البحث والتعليم، الذي يستند على الأقيسة والمقدمات المنطقية.
- الثاني: طريق العلم اللدني، الذي يحصل من طريق الإلهام والكشف والحدس.
والطريق الثاني إنّما يحصل بسبب تجريد النفس عن شهواتها ولذائذها، والتخلّص من أدران الدنيا وأوساخها، فتتجلّى مرآتها الصقيلة وتنطبع عليها صور حقائق الأشياء كما هي، إذ تتحّد النفس بالعقل الفعال حينما تحدث لها فطرة ثانية بذلك.
وأثبتت نظرية صدر المتألهين لأول مرة في تاريخ الفلسفة التكامل بين الروح والجسد في الحركة الجوهرية.
لقد جمع صدر المتألّهين بين ما عليه الإشراقيون من أنّه لا يصل الإنسان إلى الحقائق إلا عن طريق الرياضة والتصفية والشهود، وما عليه المشاؤون من أنّ اقتناص الحقائق رهن الدراسة والتحقيق، فصار يجمع بين الأسلوبين، مع إصراره على أنّ الأقيسة والمقدمات المنطقية توصل الإنسان إلى ما يوصله تجريد النفس عن شهواتها ولذاتها وتخلّصها من أدران الدنيا وأوساخها، فالسبيلان ينتهيان إلى هدفٍ واحد، والفرق بينهما كالفرق بين من يسمع وصف الحلاوة وبين من يذوقها، وتنديده بمن يُكرّس اهتمامه على أحد دون الآخر. ويقول في هذا الصدد في مقدمته على الأسفار (ج 1): "ولا تشتغل بترهات عوام الصوفية من الجهلة، ولا تركن إلى أقاويل المتفلسفة فإنّها فتنة مضلّة، وللأقدام عن جادة الصواب مزلة وهم الذين إذا جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون، وقانا الله وإياك شرّ هاتين الطائفتين ولا جمع الله بيننا وبينهم طرفة عين أبداً".
لقد اعتمد صدر المتألهين على أدوات المعرفة التي وفّرها الله تعالى للإنسان، ولم يقتصر على أداة دون أخرى فقد اعتمد على كلّ من:
- العقل
- القلب
- الوحي
فقد كان يؤمن أنّ المدرسة الإسلامية الشيعية أمّنت الاتّفاق والاتّساق بين الإلهام والوحي الإلهي من جهة والفكر الفلسفي من جهةٍ أخرى.
- إخلاصه لأئمة أهل البيت(عليهم السلام)
يُعدّ صدر المتألّهين من الموالين المخلصين لأئمة أهل البيت (ع)، ويظهر ذلك في ما كتبه، ومن كلامٍ له: "إني أعلم يقيناً أنّه لا يمكن لأحدٍ أن يعبد الله كما هو أهله ومستحقّه إلا بتوسّط من له الإسم الأعظم وهو الإنسان الكامل خليفة الله في الخلافة الكبرى". كما يقول في مقدمة كتابه الأسفار (ج 1): "فألقينا زمام أمرنا إلى الله وإلى رسوله المنذر، فكلّ ما بلغنا منه آمنّا به وصدّقناه، اقتدينا بهداه وانتهينا بنهيه امتثالاً لقوله تعالى: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" (سورة الحشر، الآية 7) حتى فتح الله على قلبنا ما فتح، فأفلح ببركة متابعته وأنجح". ويقول في شرحه على كتاب الحجّة من أصول الكافي: "الحمد لله الذي اجتبى من صفوة عباده إصابة أهل الحقّ واليقين، المقتبسين أنوار الحكمة والدين من مشكاة النبوّة والولاية وخصّهم من سائر الفرق بمزايا اللّطف والمنّة، وأفاض عليهم من نور هدايته ما كشف لهم به حقائق الملّة والشريعة وأسرار الكتاب والسنّة، واتّبعوا به سبيل حجج الله الناطقة، وبراهينه الساطعة من الذوات المقدّسة النفوس المطهّرة الذين طهّرهم الله به عن نزعات الشياطين تطهيراً، ونوّر بواطنهم بأنوار الولاية والقرب تنويراً لهم باقتفاء هذه الحجج والبراهين وأهل بيت النبوة التي أتى بها سيّد الأولين والآخرين وخاتم الأنبياء والمرسلين محمّد المصطفى- صلّى الله عليه وآله وسلّم- اهتدوا إلى أسرار العلم واليقين، وأدركوا ببصائرهم أنوار الكتاب المستبين وأخبار الأولياء المعصومين، وأطلقوا بضمائرهم على طريق التلفيق بين مقتضى الشرائع وموجبات العقول، وتحقّقوا أن لا معاندة بين الشرع المنقول والحقّ المعقول".
- وفاته
بالرغم من الإنجازات الكبيرة التي قام بها، استطاع صدر المتألّهين من الحجّ إلى بيت الله سبع المرّات. وفي طريق عودته من آخرها توفي في مدينة البصرة ودُفن هناك، وذلك سنة 1050 هـ/1640 م.
نسألكم الدعاء