اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بالسَّند المتَّصل إلى عماد الإسلام والمسلمين محمَّد بن يعقوب الكلينيّ - رضوان الله عليه - عن محمَّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، قال: قال أبو الحسن الرِّضا عليه السّلام:"قالَ اللهُ يَا ابْنَ آدَمَ بِمَشِيئَتِي كُنْتَ أَنْتَ الَّذِي تَشَاءُ لِنَفْسِكَ مَا تَشَاءُ، وَبِقُوَّتِي أَدَّيْتَ فَرَائِضِي وَبِنِعْمَتِي قَويتَ عَلَى مَعَصِيَتِي، جَعَلْتُكَ سَمِيعاً بَصِيراً قَويّاً، مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ، وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ، وَذلِكَ أَنّي أوْلى بِحَسَنَاتِكَ مِنْكَ، وَأَنْتَ أَوْلَى بِسَيِّئَاتِكَ مِنِّي، وَذاك أَنَّني لا أُسْأَلُ عَمّا أَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلونَ".
في هذا الحديث الشريف أبحاث سامية، وأمور هامّة من العلوم العالية لما وراء الطبيعة ، فنذكر نتائج البراهين العلمية لبعض المسائل ضمن فصول عديدة. وَعَلَى اللهِ التُّكْلانُ.
فصل في بيان الأسماء الحق سبحانه مقامين
إعلم أن لمشيئة الحق المتعالي جلت عظمته، بل لكل الأسماء والصفات مثل العلم والحياة والقدرة وغيرها مقامين: أحدهما: مقام الأسماء والصفات الذاتية. وقد ثبت بالبرهان أن الذات المقدس الواجب الوجود بحيثية واحدة، وجهة بسيطة محضة، مستجمع لجميع الأسماء والصفات، وعين كل الكمالات. وإن جميع الكمالات والأسماء. وصفات الجمال والجلال يعود إلى حيثية الوجود البسيطة. وكل ما هو وراء الوجود فهو نقص وقصور وعدم، حيث أن ذاته المقدس صرف، الوجود. ووجود صرف كان الكمال وكمال صرف "عِلْمٌ كُلُّهُ، قُدْرَةٌ كُلُّهُ، حَياةٌ كُلُّهُ".
ثانيهما: مقام الأسماء والصفات الفعلية، الذي هو مقام الظهور بالأسماء والصفات الذاتية، ومرتبة التجلي بالصفات الجمالية والجلالية. وهذا المقام هو مقام معية القيومية. (هُوَ مَعَكُمْ). (ومَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ). ومقام وجه الله (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ). ومقام النورية (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض).ِ ومقام المشيئة المطلقة (وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا). "خَلَقَ اللهُ الأَشْيَاءَ بِالْمَشِيَّةِ بِنَفْسِهَا"، ولهذا المقام اصطلاحات وألقاب أخرى على ألسنة أهل الله.
وقد أشير إلى هذين المقامين في الآية الشريفة من الكتاب الإلهي: (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
ومجمل القول إن مقام المشيئة الفعلية المطلقة، ذو إحاطة قيومية لجميع الموجودات المُلكية والملكوتية. وإن جميع الموجودات من ناحية تكون من تعيناتة ومن ناحية أخرى من مظاهره. وقد قال هذا الحديث الشريف، عن مقام المشيئة الفعلية والمظهرية، وفناء مشيئة العباد في ذلك، بل مظهرية ومرآتيّة العباد وجميع شؤونهم عن ذلك: (يَا ابْنَ آدمَ بِمَشِيّئتِي كُنْتَ أنْتَ الْذَّي تَشاءُ لِنَفْسِكَ ما تَشاءُ، وَبِقُوَّتِي أدَّيتَ فَرَائِضِي وَبِنْعمتِي قَوِيَت عَلى مَعْصِيَتي، جَعَلْتكَ سَمِيعاً بَصيراً قَويَّاً).إن ذاتك وكمالات ذاتك بمشيئتي وقوتي، بل إنك بنفسك وكمالاتك من مظاهر وتعينات مشيئتي (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلِكنَّ اللهَ رَمَى).
فصل في الإشارة إلى مسألتي الجبر والتفويض
أشار الإمام الرضا عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث الشريف بكل وضوح إلى مسألتي الجبر والتفويض والمذهب الحق وهو الأمر بين الأمرين، والمنزلة بين المنزلتين، الموافق لمسلك أهل المعرفة، وأصحاب القلوب، لأنه أثبت المشيئة والقوة للعبد، وفي نفس الوقت جعلها مشيئة الحق سبحانه. قائلاً "يَا ابْنَ آدمَ بِمَشْيئَّتي كُنْتَ أنْتَ الْذَّي تَشاءُ لِنَفْسِكَ مَا تَشاءُ وَبِقُوَّتِي أدَّيتَ فَرائِضِي وبِنعِمَتِي قَويتَ عَلى مَعصِيَتِي" فلا تنتفي الأفعال والأوصاف والوجودات بصورة مطلقة، كما لا يثبت للإنسان كل تلك الأمور بصورة مطلقة. انك شئت، ومشيئتك قد فنيت في ومشيئتك مظهر مشيئتي وتعينك مظهر تعيني. وتنهض بقوتك على طاعتي ومعصيتي، مع العلم بأن قوتك وقدرتك مظهر قدرتي وقوتي.
ولما كان هناك توهم اشكال واعتراض وهو أنه بناءاً على هذا العرض المذكور تنسب إلى الحق المتعالي النقائص والرذائل والمعاصي أيضاً كما تنسب الكمالات والفضائل.
أجاب عليه السّلام على هذا الزعم على أساس فلسفي برهاني وذوقي عرفاني، من أن الحق عز وجل لمّا كان كمال صرف وخير محض وعين الجمال والبهاء، كانت الكمالات والخيرات من ناحيته، بل إن نظام الوجود، حقيقته في عالم الغيب والشهود، عين الكمال وأصل الجمال والتمام. وما يعود إلى النقص والرذيله والشرّ والوبال، فهو عائد إلى العدم والتعيّن ومن لوازم الماهية. غير مجعولٍ ومفاضٍ من الحق سبحانه. بل إن الشرور الحاصلة في عالم الطبيعة وهذه النشأة المُلكية الضيّقة نتيجة التضاد بين الموجودات، وضيق هذا العالم، وأن التضاد بين الكائنات لا يكون مجعولاً. فما هو من الخيرات والكمالات والحسنات فمن الحق، وما هو نقص وشر ومعصية فمن الخلق. كما قال علية السّلام "مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَاَبَكَ مِنْ سيئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ".
إذن إن جميع أنواع السعادة الدنيوية والأخروية، وجميع أنواع الخير المُلكية والملكوتية قد أفيضت من ينبوع الخير والسعادة. وإن كافة أنواع الشقاء الدنيوي والأخروي وشرور هذا العالم والعوالم الأخرى من القصور الذاتي للموجودات ونقصها. وما هو المعروف أن السعادة والشقاء لا يكونان مجعولين بجعل الجاعل، بل إنهما ذاتي الأشياء، فلا أساس له بالنسبة إلى السعادة، لأنها مجعولة ومفاضة من قبل الحق المتعال، إذ أَن كل ذات من الذوات أو ماهية من الماهيات لا يكون سعيداً بل هو هلاك محض.
وأما بالنسبة إلى الشقاء، فلأن الشقاء التام راجع إلى حيثية الماهية وهي غير مجعولة، لا لأنها ذاتية بل لأنها أدون من مرتبة الجعل، فلا يتعلق بها الجعل. وأما الحديث المعروف "السَّعيدُ سَعيدٌ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَالشَّقِيُّ شَقِيٌ فِي بَطْنِ أُمِّهِ" فله معنىً آخر يعود إلى العلم بالأسماء والأسماء والصفات ولا يناسب المقام ذكره.
وبعد هذا البيان الصحيح المستدل، نواجه شبهة مظنونة أخرى وهي أننا حسب البيان المذكور عزلنا الكائنات الموجودة عن الخير والسعادة، عندما ربطناها بالحق المتعالي وهذا من الجبر المرفوض. وجعلنا الشرّ والشقاء من الإنسان وعزلناها عن القدرة الواجبة وهذا من التفويض المستنكر، وذاك الرفض وهذا الاستنكار ثابتان على مذهب العرفاء وعلى ضوء الأدلة الفلسفية فكيف يتمّ التوفيق بين الكلام السابق وما يلازمه من الجبر أو التفويض؟.
فأجاب الإمام صلوات الله وسلامه عليه حسب الدليل المذكور في الكلام الذي قلنا وتحقيق ذلك. إن الحق المتعال أولى بالحسنات من العباد وهم أولى بالسيئات من الذات المقدس للحق، وفي إثبات هاتين الأولوتين، إثبات الانتساب إلى الطرفين.
أما بيان أولوية الحق سبحانه في الخير من عباده، فلأجل أن نسبة الخير إلى مبدأ المبادئ بنية وجودية بالذات، فإن الخير ذاتي الوجود وهو في الواجب عين الذات، وفي الممكن بالجعل والإفاضة، وعليه يكون مصدر إفاضة الخير من الواجب تعالى، ولكن مرآة ظهوره، ومَظْهره يكون الممكن. وتلك النسبة الظاهرية والمفيضة، أتمّ من هذه النسبة المظهرية والقابلية.
وأما في السيئات والشرور فيكون الأمر معكوساً رغم صحة الانتساب إلى الطرفين لأن ما يفاض من الحق يكون خيراً، ويلازمه تخلّل الشرّ على أساس الانجرار والتبعية فتكون نسبة الشر إلى الحق بالعرض وإلى الماهية بالذات لنقصانها وقصورها. وقد تولت الآية الكريمة بيان هاتين النسبتين. فعندما تتحكم الواحدة وتتلاشى الكثرات والنقائص يقول سبحانه (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ). ولدى مراعاة الكثرات بالعرض والوسائط يقول الله عز وجل (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ).
فصل في بيان أن الحق تعالى لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون
إعلم: يقول المحققون من الفلاسفة أنه لا يوجد غرض وغاية لأفعال الحق المتعالي سوى ذاته، وتجلّياته الذاتية، ولا يمكن أن يكون لذاته الأقدس في إيجاد الأشياء هدف آخر وراء ذاته وظهوره وتجلّيه المقدس. لأن كل فاعل عندما أوجد شيئا وابتغى من عمله غير ذاته مهما كانت هذه الغاية حتى إذا كانت إيصال الفائدة والمثوبة للغير، أو كان الغاية العبادة والمعرفة أو الثناء والحمد كان هذا الفاعل مستكملاً بهذه الغاية وكان وجود هذا الهدف بالنسبة إليه أولى من عدمه، وهذا يستلزم النقص والقصور فيه وانتفاع الفاعل به، وهو محال على الذات المقدس الكامل على الإطلاق، الغني بالذات الواجب من جميع الجهات، فلا يستفسر عن أفعاله ولا يوجه إليه لِمَ و"لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ". وأما الموجودات الأخرى فإنها تستبطن في أفعالها أغراض ومقاصد أخرى غير ذواتها. فإن عشّاق جمال الحق والمقربين إليه والمجذوبين نحوه يكون هدفهم البلوغ إلى باب الله، والوصول إلى لقاء الله، والتقرّب نحو ساحة قدسه الإلهي. وإن الكائنات الأخرى فهي حسب كمالها ونقصانها وقوتها وضعفها أن تستهدف، ما هو زائد على ذواتها.
وخلاصة القول إن ما يكون كمالاً مطلقاً وواجباً بالذات، كان واجباً من جميع الجهات. وعندما لا يصح توجيه الاستفسار نحو ذاته المقدس كانت أفعاله أيضاً بعيدة عن توجيه السؤال نحوها. على خلاف سائر الموجودات فإنه يصح السؤال عن سبب وجودها كما يصح الاستفهام عن أفعالها.
وأيضاً لما كان ذاته المقدس كاملاً مطلقاً وجميلاً مطلقاً، صار كعبة لآمال كافة الموجودات وهدفاً منشوداً لجميع الكائنات، في حين أنه سبحانه لا مقصد من خلقه وأفعاله ولا كعبة لآماله وراء ذاته، لأن الموجودات الأخرى ناقصة بالذات، وإن كل ناقص مهروب عنه بالفطرة كما أن كل كامل مرغوب فيه، فالذات المقدس غاية جميع الحركات والأفعال، ولا توجد غاية وراء ذاته المقدس (لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ).
وأيضاً لمّا كان ذاته المقدس في المنتهى الأقصى من الجمال والكمال، كان نظام دائرة الوجود الذي هو ظل ذلك الجمال الحق سبحانه، في الغاية القصوى من الكمال الممكن، وعليه يكون هذا النظام الكلي المجود أتم الأنظمة المتصورة، فيكون الاستفهام عن الغاية والغرض والفائدة، منبعثاً عن الجهل والنقص. كما أن إبليس اللعين وجّه أسئلة سبعة معروفة من جرّاء جهله، وأجابه الله سبحانه إجمالاً وعلى أساس (وَجادْلهُمْ بالَّتي هي أَحْسَنْ) جواباً واحداً عن أسئلته السبعة فالله سبحانه لا يسأل لأن فعله في منتهى الكمال وتُسأل الكائنات الأخرى لنقصها الذاتي والفعلي.
وأيضاً إن الحق المتعالي حكيم بصورة مطلقة، فما يصدر منه من الأفعال يكون في منتهى الإتقان فلا يسأل، في حين أن الموجودات الأخرى تُسأل لأنها ليست كذلك.
وأيضاً إن كل ما يصدر من وجوده المقدس، فهو صادر من حقيقة ذاته وأصل حقيقته، بينما لم تكن الكائنات الأخرى كذلك، فهو فاعل بالذات ولا يصح السؤال عمن هو فاعل بالذات. أما الموجودات الأخرى فهي فاعلة بالعرض ويصح السؤال عن فعلها. وحيث أن الإرادة، والمشيئة، والقدرة عين ذاته المقدس، كانت الفاعلية بالذات عين الفاعلية بالإرادة والقدرة. ولا يرد هنا اعتراض الفاعل بالطبع. وهذا من الأبحاث الشريفة التي ثبتت بالبرهان في محله، وبه تُحل الكثير من اعتراضات المتكلمين في أبواب مختلفة من المعارف الإلهية.
ويستفاد من البيان الذي ذكرناه، ارتباط الجمل المذكورة في الحديث الشريف بعضها مع البعض الآخر على أساس الرابطة العلية، وذلك أن الحق لا يسأل عن فعله لأن فعله كامل تام، يحتوي على نظام أتم، وأما الآخرون فليسوا كذلك فيسألون وذلك لأنه سبحانه أولى بالحسنات والعبد أولى بالسيئات وهو علّة لصدور السيئات مهما كانت فمن العبد وأما الحسنات فمن الحق عزّ وجلّ.
شبكة أهل البيت(ع) للاخلاق الاسلامية