العَـفْـــوُ
والعفو هو ضدُّ الانتقام , وهو إسقاطُ ما يستحقُّه من قصاصٍ أو غرامة . وقد وردت في كتاب الله العزيز آيات كثيرة تدعو إلى العفو وترغِّبُ فيه , منها قولُه تعالى : (خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) , وقوله (عزَّ مِن قائل) : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) , وقولُه (عزَّ وجلَّ) : (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .
أمَّا من الأحاديث فقد ورد عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنَّه قال : (( العفوُ لا يزيد العبدَ إلاَّ عِزَّاً ؛ فاعفُوا يُعزَّكمُ الله . مَن عفا عن مظلمةٍ أبدله الله بها عزَّاً في الدنيا والآخرة . عليكم بمكارم الأخلاق ؛ فإنَّ الله (عزَّ وجلَّ) بعثني بها , وإنَّ مِن مكارم الأخلاق أنْ يعفوَ الرجلُ عمَّنْ ظلمَه , ويُعطيَ مَنْ حرمَه , ويَصلَ مَنْ قطعَه , وأنْ يعودَ مَنْ لا يعودُه )).
ورُوي عن أمير المؤمنين عليّ (عليه السّلام) أنَّه قال : (( العفوُ تاجُ المكارم . شيئانِ لا يوزن ثوابهما ؛ العفوُ والعدل )) .
وقال (سلام الله عليه) : (( أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم , فما يعثر منهم عاثر إلاّ ويدُ الله بيده يرفعُه )) . كذا قال (صلوات الله عليه) : (( إنَّما ينبغي لأهل العصمةِ والمصنوعِ إليهم في السلامة أنْ يرحموا أهلَ الذنوب والمعصية , ويكونَ الشكرُ هو الغالبَ عليهم )) .
وجاء عنه (عليه السّلام) أيضاً قولُه : (( إذا قدرتَ على عدوّك فاجعلِ العفوَ عنه شكراً للقدرةِ عليه ) وقوله : (( بالعفوِ تنزل الرحمة )) .
والإمام الحسين (عليه السّلام) هو الملبّي لنداء الله تعالى في كلِّ دعوةٍ إلى خُلُقٍ فاضلٍ حميد , وهو أتقى الناس وأولى منهم بالفضائل , ومنها العفو . وهو العزيزُ النفس والجانب بالعفوِ عن المخطئين , وغير ذلك من مكارمِ الأخلاق حتَّى عفا عمَّن ظلمَه , وأعطى مَنْ حرمه , ووصلَ مَن قطعهُ , وعادَ مَن لم يعدْه .
وقد أقالَ عثراتِ الناس جزاءً على مروءاتهم , ورحمةً بحالهم , وتجاوز بعصمته المقدّسة عن ذنوبهم ومعاصيهم , وكان قادراً أنْ يعاقب فعفا , كجدِّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله) حين قال لأهل مكّة : (( اذهبوا فأنتمُ الطلقاء )) , من بعد ما آذَوه أشدَّ الإيذاء .
وصدرَ عفوه عن مقدرة فكان أحسنَ العافين , وهو القائل (عليه السّلام) : (( إنَّ أعفى الناس مَنْ عفا عند قدرته )) .
روى ابنُ الصبَّاغ المالكيّ : جنى بعضُ أقاربه جنايةً تُوجب التأديب , فأمر بتأديبه , فقال : يا مولاي , قال الله تعالى : (والْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) .
قال (عليه السّلام) : (( خلُّوا عنه , فقد كظمتُ غيظي )) .
فقال : (وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ) .
قال (عليه السّلام) : (( قد عفوتُ عنك )) .
فقال : (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) .
قال : (( أنتَ حُرٌّ لوجه الله تعالى )) . وأجازه بجائزة سَنيّة .
وفي رواية الإربلي في كشف الغمّة : قال (عليه السّلام) : (( أنتَ حُرٌّ لوجه الله , ولكَ ضِعفُ ما كنتُ اُعطيك )) .
فكان عفوُ الحسين (سلام الله عليه) :
أوَّلاً : مكافئة هنيئة على ذلك الغلام ؛ لأنَّه استعانَ بالقرآنِ الكريم , وخاطب به سيّدَ الأخلاق معوِّلاً على كرمه وعفوه , فلم يُخيّبْه الإمامُ الحسين (صلواتُ الله عليه) , بل صفحَ عنه , ثمّ قدَّمَ له هديَّتينِ ؛ الاُولى العتق , وأيُّ هديَّة تلك ! والثانية عطاءٌ مضاعفٌ أو جائزةٌ سنيّة يستعين بها على العيش الحرّ الكريم .
فجمع الإمامُ الحسين (عليه السّلام) أكثرَ مِن خلُق ؛ العفو والتعليم والكرم , وتلك هي أخلاقُه (سلام الله عليه) متعدّدةٌ في الموقف الواحد , متداخلةٌ فيما بينها لا تدري أيّاً منها تُشير إليها .
ثانياً : كان عفوُ الحسين (عليه السّلام) تأديباً وإصلاحاً لذلك الغلام , وإعطاءً لفرصةٍ يستدرك بها خطأَه , ويستفيد من رحمةِ الإمام الحسين (عليه السّلام) وعفوه وحلمه .
ثالثاً : كان عفوه (سلام الله عليه) عن قدرة شكرَها لله تعالى بالعفوِ عن عباده , وإلاّ كان من حقّه (عليه السّلام) أن يعاقب , إلاّ أنَّه اختار العفو بحكمته , وبلطفه ورحمته .
رابعاً : لم يكن عفوُه (عليه السّلام) مجرَّد عفو , أي مجرَّد إسقاطِ حقٍّ من قصاص , بل كان إضافةً إلى ذلك صفحاً جميلاً , والصفحُ الجميل في قوله تعالى : (فاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) هو العفوُ من غير عتاب كما قال الإمام الرضا (عليه السّلام)(2) , أو هو كما قال الإمام الصادق (عليه السّلام) : (( عفواً مِن غير عقوبة , ولا تعنيف ولا عتب )) .
ولم يجمعِ الإمامُ الحسين (عليه السّلام) ذلك فحسب , إنَّما أضاف إليه الجائزةَ السنيّة ورحمةَ الحرِّيَّة .
وفي كلّ مواقفه (سلام الله عليه) كان يقدِّم عفوَه على غضبه , ويعرضُ العفوَ على مبغضيه وأعدائه علَّهم يهتدون , وإلى الحقِّ يؤوبون , وعن الباطل والضلال يرجعون , ومن فرصةِ السلام يستفيدون .
وهذا من الرحمةِ الحسينيّة التي استفاد منها الحرُّ بنُ يزيد الرياحيّ (رضوان الله عليه) ؛ إذ لمّا سمع كلامَ الحسين (عليه السّلام) , ودعوتَه الحقَّة أقبل على عمر بنِ سعد وقال له : أمُقاتلٌ أنتَ هذا الرجل ؟
قال عمر : إي والله قتالاً أيسرُه أنْ تسقط فيه الرؤوس , وتطيحَ الأيدي .
فقال الحرّ : ما لكم في ما عرضه عليكم من الخصال ؟
فقال عمر : لو كان الأمرُ إلَيَّ لقبِلتُ , ولكنَّ أميرَكَ أبى ذلك .
فتركه الحرُّ ووقف مع الناس , وكان إلى جنبهِ قُرَّةُ بنُ قيس , فقال لقُرّة : هل سقيتَ فرسَكَ اليوم ؟
قال : لا .
قال : فهل تُريد أن تَسقيه ؟
فظنَّ قُرَّةُ مِن ذلك أنَّه يُريد الاعتزال ويكرهُ أن يشاهدَه , فتركه , فأخذ الحرُّ يدنو من الحسين قليلاً , فقال له المهاجرُ بنُ أوس : أتريد أن تحمل ؟
فسكتَ الحرُّ , وأخذتْه الرعدة , فارتاب المهاجرُ مِن هذا الحال , وقال له : لو قيل لي : مَنْ أشجعُ أهلِ الكوفةِ لما عدوتُك , فما هذا الذي أراه منك ؟!
فقال الحرّ : إنّي اُخيِّر نفسي بين الجنَّةِ والنار , والله لا أختارُ على الجنَّةِ شيئاً ولو حُرِّقتُ .
ثمَّ ضرب جوادَه نحو الحسين ؛ منكِّساً رمحَه , قالباً ترسَه , وقد طأطأ برأسِه حياءً مِنْ آل الرسول بما أتى إليهم , وجعجعَ بهم في هذا المكان على غير ماءٍ ولا كلأ ,رافعاً صوته : اللَّهمَّ إليك اُنيب فتُبْ عَلَيَّ ؛ فقد أرعبتُ قلوبَ أوليائك وأولادِ نبيِّك . يا أبا عبد الله , إنّي تائب , فهل لي من توبة .
فقال الحسين (عليه السّلام) ـ وهو العفوُّ ـ : (( نعم , يتوبُ الله عليك )) .
فسرَّه قولُه , وتيقَّنَ الحياةَ الأبديَّةَ والنعيمَ الدائم , ووضح له قولُ الهاتف لمّا خرج من الكوفة , فحدّثَ الحسينَ (عليه السّلام) بحديثٍ قال فيه : لمّا خرجتُ من الكوفة نُوديتُ : أبْشِرْ يا حُرُّ بالجَنَّةِ . فقلتُ : ويلٌ للحرِّ ! يُبشَّرُ بالجنَةِ وهو يسير إلى حرب ابن بنتِ رسول الله !
فقال له الحسين (عليه السّلام) : (( لقد أصبتَ خيراً وأجراً )) . وكان مع الحرّ غلامٌ له تركيّ .
ثمَّ استأذنَ الحرُّ الحسينَ (عليه السّلام) في أنْ يكلِّمَ القوم , فأذِنَ له , فنادى بأعلى صوته : يا أهل الكوفة , لأمَّكم الهبل والعبر ! إذْ دعوتموه وأخذتُم بكظمه , وأحطْتُم به من كلِّ جانب فمنعتموه التوجّهَ إلى بلاد الله العريضة حتّى يأمَنَ وأهلُ بيته , وأصبح كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً , وحَلأْتُموه ونساءَه وصبيتَه وصَحبَه عن ماءِ الفراتِ الجاري الذي يشربه اليهودُ والنصارى والمجوس , وتمرغ فيه خنازير السوادِ وكلابُه , وها هم قد صرعهمُ العطش , بئسما خلفتُم محمَّداً في ذرّيّته ! لا سقاكمُ اللّهُ يومَ الظمأ .
فحملتْ على الحرّ رجَّالةٌ ترميه بالنبل , فتقهقر حتّى وقفَ أمامَ الحسين (عليه السّلام) .
وهكذا يتحوّل الحرّ ببركة عفو سيّده الحسين (عليه السّلام) إلى صفّ الإيمان والحقّ , والجهاد والشهادة , ويعلو صوتُه بدعوةِ أهل الكوفة إلى المعروف , ونهيهم عن منكرهم وضلالهم في قتالهم لسيّد شباب أهل الجنّة (عليه السّلام) .
وبعد شهادة حبيب بن مظاهر (رضوان الله عليه) خرج الحرُّ بن يزيد الرياحيّ ومعه زهيرُ بنُ القين يحمي ظهرَه , فكان إذا شدَّ أحدُهما واستلحم شدَّ الآخرُ واستنقذه , ففعلا ساعة, وإنَّ فرس الحرّ لمضروب على اُذُنَيه وحاجبَيْه , والدماءُ تسيل منه , وهو يتمثّل بقول عنترة :
ما زلتُ أرميهم بثغرةِ نحرِه ولبانه حتّى تسربل بالدمِ
فقال الحصين ليزيد بن سفيان : هذا الحرُّ الذي كنتَ تتمنّى قتله .
قال : نعم .
وخرج إليه يطلب المبارزة , فما أسرع أن قتله الحرّ , ثمّ رمى أيُّوبُ بنُ مشرح الخيوانيّ فرسَ الحرّ فعقره , وشبّ به الفرس فوثب عنه كأنَّه ليث, وبيده السيف , وجعل يقاتل راجلاً حتّى قتل نيّفاً وأربعين , ثمَ شدَّتْ عليه الرجَّالةُ فصرعته , وحمله أصحابُ الحسين (عليه السّلام) ووضعوه أمام الفسطاط الذي يقاتلونَ دونه , وهكذا يُؤتى بكلّ قتيل إلى هذا الفسطاط , والحسينُ (عليه السّلام) يقول : (( قتلةٌ مْثلُ قتْلةِ النبيِّينَ وآل النبيّين )) .
ثمَّ التفتَ (عليه السّلام) إلى الحرّ , وكان به رمق , فقال له وهو يمسح الدمَ عنه : (( أنت الحرّ كما سمّتْك اُمُّك , وأنت الحرُّ في الدنيا والآخرة )) .
ورثاه رجل من أصحاب الحسين (عليه السّلام) , وقيل : عليُّ بن الحسين (عليه السّلام) , وقيل : إنَّها من إنشاء الحسين (عليه السّلام)
لَنِعْمَ الحُرُّ حُرُّ بَني رِياحِ صبورٌ عندَ مشتَبكِ الرماحِ
وَنِعْمَ الحرُّ إذْ فادى حسين وجاد بنفسه عند الصباحِ
..الأخلاق الحسينيّة