اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الامام الحسين عليه السلام ومنهج البراءة من المشركين
لقد دافع المسلمون في الجزيرة العربية عن الوحي في العصر الأول أفضل دفاع ، وجاهدوا الكفار دون هوادة حتى نصرهم الله تعالى ، فعم الإسلام الجزيرة ، ورفرفت على ربوعها راية التوحيد ، وحينئذ أنزل الخالق عز وجل سورة البراءة ، وهي السورة الوحيدة في القرآن التي لا تفتتح باسم الله الرحمن الرحيم ، دلالة على غضب الله وشدة انتقامه .
وعندما نزلت هذه السورة على الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، وأراد ابلاغ المسلمين في الموسم الأكبر في الحج بأنه منذ تلك اللحظة وإلى أربعة أشهر يمهل المشركين لكي يتركوا الجزيرة العربية ، ولا يعودوا إلى حرم الأمن الإلهي ، نزل جبرائيل (عليه السلام) على الرسول (صلى الله عليه وآله) ، وأخبره بأن لا يحمل هذه السورة إلى المشركين إلاّ هو أو شخص يمثله ويكون نفسه ، حينئذ دعا النبي (صلى الله عليه وآله) أمير المؤمنين (عليه السلام) وحمَّله هذه السورة ، فصدع الإمام بها في الموسم ، وكانت القبائل العربية المشركة المتوافدة إلى موسم الحج الأكبر متواجدة في المشاعر ، كما في مكة المكرمة ، فأعلن الامام (عليه السلام) البراءة بكل صراحة منهم في ذلك الموسم العظيم .
والملاحظ في هذا المجال إن كل الطغاة عبر التأريخ يرفضون الحديث عن البراءة ، فلا بأس أن تتحدث عن الصدق والوفاء وصلة الرحم والصلاة والزكاة ، ولكن إياك أن تتحدث عن الشرك ، والرشوة ، والفساد ، والإنحراف ، والمنكر .
ترى لماذا تبدأ كلمة التوحيد بالرفض ، وتنتهي بالإثبات - لا اله الا الله - ، ولماذا يغفر الله تعالى كل ذنب ولكنه لا يغفر الشرك به ؟ ، ولماذا يعد الشرك ظلما عظيما؟ ولماذا كانت معركة الانبياء عبر التأريخ مع الشرك والمشركين الذين كانوا يتخذون مع الله آلهة ، ومن دونه اولياء ؟
السبب في كل ذلك هو ان المنزلق الاكبر للبشرية انما هو منزلق ان لا يرفضوا الله تعالى، ولكنهم يشركون به في نفس الوقت. فكل شيء يشهد على وجود الله، ولكن الناس يريدون عادة ان يعبدوا مع الله غيره، وان يتخذوا مخلوقاته أولياء من دونه سواء كانوا حجرا أم بشرا أم مناهج.
فالمشكلة هي ان الانسان يريد ان يعبد الله تعالى عندما تكون له مصلحة في ذلك، فتراه يعبد الله حينا ويخضع للطاغوت حينا. فالمنزلق الخطير الذي يوقع الشيطان الانسان فيه هو هذا المنزلق؛ فلا بأس ان يصلي من الليل الى الصباح، ولكن اذا تعين عليه ان يطبق قوله سبحانه: [ يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ] (النساء: 135) ، أن يقوم لله ، ويشهد بالقسط ، وينكر المنكر ، ويقاوم الطاغوت ، ويرفض الإنحراف ، فحينئذ تبدأ الصعوبة.
فالذي ينهض في وجه سلطان جائر وينكر عليه فساده وانحرافه ، فإن هذا السلطان لن يسكت عنه ، ولذلك كان ابراهيم الخليل (عليه السلام) محطماً للاصنام ، لأنه رفض الإنحراف ، بل انه بدأ مسيرة التوحيد من خلال الرفض ؛ رفض عبادة الشمس والكواكب حتى قـال: [ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ ] (الانعام/ 79) ، فلولا رفضه لعبادة من هو دون الله لما كان موحدا ، ولما عمد إلى تحطيم الأصنام .
الرفض بداية الايمان
وهكذا فإن الرفض هو بداية الإيمان ، ولقد علّمنا أبو عبد الله الحسين (عليه السلام) درس الرفض والتوحيد ، فالسر الذي جعل العالم كله ، وعبر التاريخ ، يقف إجلالا له (عليه السلام) كلما مرت ذكرى محرم ؛ يكمن في أن منهج التوحيد علّمه كيف يرفض الإنحراف ، ولو كلفه ذلك أن يسفك دمه ، فالإمام الحسين (عليه السلام) أعلن عن ثورته بقوله: (( إنّا أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ... ويزيد رجل فاسق شارب الخمر ، قاتل النفس المحرّمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله…)) (1) ، فلم يقل : أنا لا أبايع يزيد ، بل قال : إن منهجي يختلف عن منهجه ، فمثل أبي عبد الله الحسين الذي رضع من ثدي الإيمان ، ونشأ في كنف رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وترعرع في حضن فاطمة الزهراء (عليها السلام) ، وشب تحت رعاية أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يمكنه أن يبايع رجلاً فاسقاً كيزيد ، فمن كان مع الحسين لا يمكن أن يكون مع يزيد ، وهذا هو الطريق الصحيح .
ولقد أعلن الحسين (عليه السلام) مرة أخرى عن منهجه التوحيدي في رسالته الى العلماء ، حيث نقل في هذه الرسالة حديثاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: (( من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، ثم لم يغيّر عليه بقول ولا فعل ، كان حقيقاً على الله أن يدخله مدخله)) (2) ؛ أي إن الإنسان الذي يداهن سلاطين الجور ولا يتبرأ منهم ، فإنه سيكون شريكا في جرائمهم ، وقد كان الإمام الحسين (عليه السلام) يستهدف من هذه الرسالة استنهاض همم العلماء ، ليقوموا قياماً واحداً ضد يزيد الطاغية .
وفي هذا المجال نستمع لقول الله تعالى: [ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ] (الزمر:17 ، 18) ، ولقوله عز وجل: [ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَانفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ] (البقرة:256) . فالكفر بالطاغوت هو بداية الطريق ، والذي لا يكفر به لا يمكن أن يؤمن بالله ، فكيف من الممكن أن تجتمع على إنسان واحد قيادتان ، وكيف يقوده إمامان ؛ إمام الهوى ، وإمام الهدى ؟ ، إن حركة الإنسان لا تتحمل قيادتين ، ولذلك فان الرفض هو بداية التسليم والإيمان ، وهذا هو ما فعله الإمام الحسين (عليه السلام) ، فهو لم يترك جانبا من جوانب حياتنا إلا وأضاءه بنهضته الكبرى .
إن الحسين (عليه السلام) بدأ نهضته هذه بقضية هامة ، وهي أنه قد نظر إلى العاقبة منذ بداية الطريق ، فقد أعلن في أول خروجه من مكة المكرمة قائلاً: (( … خطَّ الموت على ولد آدم مخطَّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني الى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخيّر لي مصرع أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي يتقطّعها عسلان الفلوات ، بين النواويس وكربلا،…)) ، ثم قال (عليه السلام) : (( من كان فينا باذلاً مُهجته ، موطّناً على لقاء الله نفسه ، فليرحل معنا فإنّي راحل مصبحاً إن شاء الله )) (3) .
وهكذا فإنه (عليه السلام) لم يُمَنِّ الناس بالإمارة ، والنصر ، والخيرات .. ، وإنما أعلن لهم ان هذا الطريق لابد وأن ينتهي بالشهادة ، وعندما يتسلح قوم بهذا النهج ، وهذه الروح العالية ، فإنهم لا يمكن أن يغلبوا عن ضعف لأن النهاية هي الشهادة ، وهم قد بدؤوا بالنهاية هذه ؛ أي اعتبروها بداية الطريق كما فعل الإمام الحسين (عليه السلام) .
ونحن اليوم إذ نجدد ذكرى أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) ، ونحيي شهر محرم بما فيه من نفحات إلهية ، وفرص للهداية ، وعواطف جيّاشة ، وأعين دامعة ، وبما فيه من مجالس الذكر والعزاء ، علينا أن نحييه بالكلمة المسؤولة التي تحمّل الناس مسؤوليتهم الشرعية ، فالقرآن الكريم يقول: [ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِاَنفُسِهِمْ ] (الرعد:11) ، ويقول: [ وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى] (النجم: 39، 40) ، فالكل سوف يقف في ذلك اليوم الرهيب لكي يجيب ربه ، ولا فرق في ذلك بين الكبير والصغير ، والعالم والجاهل ، والغني والفقير ، فالجميع يتحملون المسؤولية ، فأنت مسؤول ، وأنا مسؤول ، وكلنا مسؤولون .
ومن مسيرة الإمام الحسين عليه السلام ونهضته، نستلهم ثمة افكار، منها:
درس المسؤولية
1- فكرة المسؤولية هي الفكرة الأولى التي زرعها الإمام الحسين (عليه السلام) في روع الأمة ، فهناك الكثير ممن جاء إلى الإمام الحسين (عليه السلام) وأوصاه بأن لا يحمل معه عياله وأهل بيته إذا كان متأكداً من انه سيُقتل في سبيل الله ، ولكنه (عليه السلام) كان يريد أن يعلمنا درس المسؤولية ، وأن كل واحد منا يجب أن يتحمل قدراً منها ، وفعلا فقد حمل الجميع هذه الرسالة في يوم عاشوراء ، إعتباراً من حبيب بن مظاهر ذلك الرجل الذي احدودب ظهره بسبب شيخوخته ، وانتهاءً بالطفل الرضيع علي الأصغر ، وهذه هي فكرة المسؤولية التي يجب أن نبيّنها للناس عبر المنابر والمجالس .
إن الأوضاع المتردية التي نجدها في امتنا ، والفساد العريض ، والتشتت والإختلاف .. كل ذلك رهين بالمسؤولية التي لابد أن نتحملها ؛ فالعلماء بعلمهم ، والخطباء بألسنتهم ، والكُتّاب بأقلامهم ، والتجار بأموالهم ، وكل حسب قدرته وطاقته، فبما أن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم الفرائض الدينية ، فالجميع يجب أن يتحملوا المسؤولية .
وكل واحد منا عندما يريد البحث عن خطيب يتعلّم منه معالم دينه ، فلابد أن يفتش عن خطيب يُحمّله المسؤولية ، لا أن يبحث عن خطيب يبرّر له ويخدّره ، فالدين ليس بالتمني ، بل بالعمل والإجتهاد والورع .
اتباع القيادة الربانية
2- أما الفكرة الثانية التي لابد أن نحيي بها شهر محرم فهي فكرة القيادة الربانيّة ، فعندما حمل الحسين (عليه السلام) الراية قال: (( إنا نحن أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ،… )) (4) ؛ أي إن الخط الصحيح يتمثل في قيادة ربانية إلهية تتصف بصفة النبوة والرسالة ، أي تحمل الحقائق الإلهية الى الناس ، ومعنى ذلك أن القائد الشرعي هو الذي يحمل في داخله حقائق التوحيد ليحملها إلى الآخرين ، وهذا هو معنى القيادة الربانية .
فعندما تريد أن تعرف قائدك فانظر إليه : هل يدافع عن قيم الوحي ؟ وهل يدعو الى قيم الرسالة ؟ وهل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ؟ أم يداهن السلاطين ويسكت عنهم ؟
ومن هنا فإن الأمة الإسلامية لا يمكن أن يسودها الصلاح إلاّ بالتفافها حول القيادات الربانية ، وهذه القيادات لابد أن يعرفها المؤمنون ويبحثون عنها ، فالله سبحانه وتعالى أخفى أولياءه بين عباده ، وقد تحدّث القرآن عن صفاتهم قائلاً : [ يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ] (المائدة/54) .
اختيار المنهج السليم
3- الفكرة الثالثة التي نستلهمها من نهضة الحسين (عليه السلام) الكبرى هي الطريق الواضح والمنهج السليم ، فلقد اختار (عليه السلام) طريقاً ومنهجاً محددين ، فلو كان قد قُتل وهو متعلق بأستار الكعبة لما أصبحت ثورته عظيمة ، ولكنه أعلن أولاً البراءة من المشركين ، وعبأ الأمة الإسلامية بالوعي ثم قَدِمَ الى كربلاء .
صحيح أنه (عليه السلام) قد استشهد في أرض بعيدة عن موطنه ، ولكن أرض العراق كانت مأهولة بالقرى والمدن ، وهو (عليه السلام) عندما قُتل فيها صبغ أرضها بدمه الشريف ، وكانت رايته هي المنتصرة رغم انكسارها الظاهري ، ولذا أصبحت الكوفة بعد ذلك بفترة قصيرة مركزاً للثورات المتلاحقة طوال تأريخها ، ففي سنة (65) للهجرة انفجرت حركة التوابين ، ثم حركة المختار ، وإذا ما سمعنا عن كل الحركات الكبرى في التأريخ فإن منشأها الكوفة ، وذلك ببركة دم أبي عبد الله (عليه السلام) .
وعندما قُتل (عليه السلام) في كربلاء فإن أهل بيته الذين اُسروا ، حملوا رسالته إلى الكوفة ومنها إلى الشام ثم إلى المدينة ، وهكذا فقد كانت رايته (عليه السلام) تدور في الآفاق حتى أسقطت أنظمة الطغاة .
ونحن يجب أن نـفـتش عن الإستراتيجية الصحيحة والمنهج اللأحب ، الذي نسير به إلى الأهداف المرسومة ، من خلال تحمل المسؤولية ، واتباع القيادة الربانية ، وتعيين الخطة الواضحة ، وبذلك ستنتصر الأمة على أعدائها ، وتتغلب على مشاكلها ، وتحقق أهدافها بإذن الله ، وهذه هي دروس ثورة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) .
وكلمة أخيرة ؛ وهي إن علينا تطهير أنفسنا في هذا الشهر من الحمية الجاهلية ، والأفكار الخاطئة ، والثقافات الدخيلة ، والأحقاد والضغائن ، وأن نوحّد أنفسنا تحت راية الإسلام والإيمان ، فالإمام الحسين (عليه السلام) هو سفينة النجاة فلنركب هذه السفينة ، وهو مصباح هدى فلنهتد بهذا المصباح في الظلمات ، وهو شفيع هذه الأمة فلنطلب الشفاعة من الله تبارك وتعالى به ، ليغفر الله ذنوبنا ويكفّر عنا سيئاتنا .
ونسأله تعالى أن يوفقنا لأن نكون حسينيين قولا وعملا ، وأن نكون مع الحسين وتحت رايته في الدنيا والآخرة .
(1) بحار الانوار، ج44،ص325.
(2) بحار الانوار، ج44،ص382.
(3) بحار الأنوار، ج44، ص366-367.
(4) بحار الانوار، ج44،ص325.
الكاتب:السيد محمد تقي المدرسي
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين