اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ذلّل معاويةُ الصِّعابَ وأحكمَ القبضةَ بكلِّ ما اُوتيَ من وسائل المال والدّهاء والارهاب ، ونقل السّلطة ورئاسة الدولة إلى ولده يزيد ، ومع كل هذا التمهيد فأنّ الحزب الاموي لمّا يطمئنْ على سلطته بعد ، والحاكم الجديد ليس بوسعه أن يتحدّى قِيَمَ الاُمّة ومبادئها ، فقد رَبّاها رسول الله على حبّ أهل بيته ونفخَ فيها القرآنَ روحاً حضارياً خاصّاً ، وقيماً سياسية معيّنة ، فهذه الاُمّة تعرف صفات الامام ، وتميِّز شخصيّة القائد ، وتعرف حقوقها السياسية ، وتشخِّص بوضوح دورها التأريخي ، وترفض هذا الاستبداد والنظام الوراثي الّذي فُرِضَ عليها .
لقد كانت العشرون عاماً الماضية مِن تسلّط الحزب الاموي وسيطرته وأَثَرَتِهِ وتحكّمه وانفراديته بالمال والسلطة والادارة ، كافية لان تحفِّز الاُمّة للثورة وتجعلها تتهيّأ لخلع يزيد بن معاوية الحاكم المفروض عليها ، وطبيعي عندما تشتدّ المحنُ وتتوالى الشدائد ، ويطوِّق الاُمّةَ طوقُ الارهاب والتسلّط السياسي تتّجه الانظار إلى رجال المعارضة ، وقادة الرأي ، وأقطاب الحركة الّتي تحمل روح الثورة ، وتعيش من أجل المبادئ ، وتتصدّى بعبقرية وجدارة لمهام المواجهة والقيادة ، ولم يكن في الاُمّة يومها من رجل كالحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام ، فهو سيِّد قريش ، وسبط رسول الله ، وابن أمير المؤمنين ، وخيرة رجال الاُمّة علماً وورعاً وكفاءة وخُلُقاً ، وليس في المسلمين مَن يجهل مقامه ، أو لا يعرف شخصيته ، وقد عرفوا موقفه ورفضه لولاية يزيد وتنصيب معاوية له ، بل ولقد كان معاوية يخافه ، ويعلم موقفه وقدرته على قيادة الاُمّة وتحريك ضميرها وتعبئتها للتحرّك والقتال .
ويزيد يعرفُ تعلّق الاُمّة بالحسين ، ويعرف شدّة الحسين وعنفه ، وروح الوثبة والثورة فيه، ويعلم موقفه من معاوية، ورفضه الشديد لفرض معاوية ليزيد وتسليطه على المسلمين . لذلك تركّز همّه ، وتركّزت مخاوفه في شخص الحسين ، فكتب في الايّام الاُولى من تولِّيه السّلطة إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان والي المدينة كتاباً جاء فيه : « أمّا بعد ، فَخُذْ حُسيناً وعبدالله بن عمر وابن الزُّبير بالبيعة أخذاً شديداً ليس فيه رخصة حتّى يُبايِعوا » .
تسلّم الوليد رسالة يزيد وقرأ فيها نعي معاوية ، وإعلان البيعة ليزيد وتكليفه بمهمّة سياسية شاقّة ، ومسؤولية كبرى ، كتم سِرّ الكتاب وفكّر مليّاً ، ثمّ استدعى مروان لِيُبْلِغهُ النّبأ ويستشيره في كيفية مواجهة الحسين وتنفيذ قرار يزيد ، قبل أن يستفحل الامر ويفلت الموقف، فلم يكن لدى مروان من رأي غير المباغتة والارهاب، فطرح رأيه ومشورته عليه : «أرى أن تدعوهم السّاعة وتأمرهم بالبَيعة فإنْ فعلوا قَبِلتَ منهم، وكَفَفْتَ عنهم ، وإن أبوا ضَرَبْتَ أعناقهم قبلَ أنْ يعلموا بموت معاوية ، فإنّهم إنْ علموا بموتِهِ وثبَ كلُّ رجل منهم بناحيـة ، وأظهرَ الخلاف ، ودعا إلى نفسه ، أمّا ابن عمر فلا يرى القتال ، ولا يُحبّ أنْ يلي على الناس إلاّ أن يُدفعَ إليهِ هذا الامرُ عفواً» .
تمّت المشورة وتبلور الرأي، وتحدّد الموقف، وتسارعت الخطى للاحاطة بالحسين، وتطويقه ، ومباغتته ، لئلاّ ينتشر خبر موت معاوية ، ويتحرّك الرأي العام ، ويتّجـه الناس إلى الامام الحسين السبط فيبايعوه .
«فأرسلَ الوليد عبدالله بن عمر بن عثمان ، وهو غلام حدث إلى الحسين وابن الزُّبير يدعوهما ، فوجدهما في المسجد وهما جالسان ، فأتاهما في ساعة لم يكن الوليد يجلس فيها للناس ، فقال : أجيبا الامير ، فقالا : انصرف الان نأتيه» .
لم يكن هذا الاستدعاء اعتيادياً ، ولم يكن الحسين (ع) ليغفل عنه ، فما عسى أن يكون الحدث ؟ وماذا يريد الوليد ؟ .
أحسّ الامام الحسين (ع) وابن الزُّبير بخطورة الموقف ، وأدركا أنّ أمراً جديداً قد حدث ، وأنّ وضعاً سياسياً غير اعتيادي قد طرأ ، وإلاّ لِمَ هذا الاستدعاء ؟ ولِمَ في هذا الوقت الّذي لم يكن من عادة الوليد استقبال أحد من الناس فيه ؟ فتساءل ابن الزُّبير قائلاً للامام الحسين (ع) : «ما تراه بعث إلينا في هذه الساعة الّتي لم يكن يجلس فيها ؟ فقال الحسين (ع) : أظن أنّ طاغيتهم قد هلك ، فبعث إلينا ليأخذنا بالبيعة قبيل أن يفشو في الناس الخبر ، فقال : وأنا ما أظن غيره ، فما تريد أن تصنع ؟ قال الحسين (ع) : أجمع فتياني السّاعة ثمّ أمشي إليه وأجلسهم على الباب وأدخل عليه ، قال : فإنّي أخافه عليك إذا دخلت ، قال : لا آتيه إلاّ وأنا قادر على الامتناع» .
وهكذا استقبل الحسين الخطّة الامويّة ، وتهيّأ للمواجهة ، وأدرك المباغتة ، وعرف لغةَ التعامل مع هذا الحزب : «لا آتيه إلاّ وأنا قادر على الامتناع» .
بهذه الرّوح وبتلك العزيمة ، بالموقف الشجاع ، وبالتحدِّي والرّفض ، ومن الوهلة الاولى قرّر الحسين (ع) أن يُجابِهَ تسلّطَ يزيد ، ويردَّ على الموقف السياسي الخطير الّذي سينشأ من تولّيه شؤون الاُمّة واستلامه إدارة الحكم ، فهو يعرف يزيد ، ويدرك بعمق قيمته السياسية والاخلاقية والروحية ، ويعلم أن لا بدّ من السيف والدم والثورة والجهاد وسحب صفة الشرعية من هذا المتسلِّط الطّاغية بأي ثمن كان .
بعث الحسين الشهيد (ع) إلى أخوته وأهل بيته وحاشيته فاجتمع من حوله ثلاثون رجلاً ، فكانوا كوكبة أبطال ، ورجال ثورة ، وهكذا سار إلى الوليد ومعه حرسه ورجاله ، مستعدّاً للدفاع ، متأهِّباً للمواجهة ، فليس في نفس الثائر الشهيد رضىً ولا مهادنة ، وليس في لغته ضعف ولا وهن ، فبين جنبيه قلب عليّ بن أبي طالب ، وفي يده سيف الحقّ، وفي نفسه نفحة النبوّة ، وعزّة الامامة، وشرف الرجولة ، جاء الحسين ليحدِّد الموقف ، ويعلن القرار ، ويحسم النزاع ، ويقول كلمة الرّفض وهو يمثِّل إرادة الاُمّة ، وينطق بلسان الشريعة ، ومن حوله حاشيته وأهل بيته ، موحياً بالمواجهة ، وملوِّحاً بالموقف الصّعب ، ومهدِّداً بالعُنف والثّورة .
سارَ موكب الحسين (ع) حتّى وصل ديوان الوليد ، وقد حضر مروان بن الحكم ، فاقتحم الموكب مجلس الوليد وروح الرّفض والتحدِّي ظاهرة على الحسين الشهيد ، ثمّ أجلسَ حرسه ورجاله في موضع يمكنهم من مراقبة الاجتماع، ومواجهة الطوارئ ، أجلسهم بحيث يرون مكانه ويسمعون قوله ، لئلاّ يُؤخذ غدراً ، أو يهاجم على حين غرّة ، ثمّ احتاط للامر وأعدّ رجاله وحرسه للوثبة والهجوم ، ووضع كلمة سرّ بينه وبينهم
قال لهم : «إن دعوتُكم أو سمعتم صوته قد علا فاقتحموا عليَّ بأجمعكم ، وإلاّ فلا تبرحوا حتّى أخرج إليكم» .
إجتاز الحسين الثائر (ع) مجلس الوليد فسلّم وجلس ، ووجد إلى جوار الوليد مروانَ بن الحكم ، بدأ الحوار ، ودارت الاحاديث ، وأخبر الوليدُ الحسينَ بموت معاوية ، ثمّ : « عرضَ عليه البيعةَ ليزيد فقال : أ يُّها الامير ! إنّ البيعة لا تكون سرّاً ، ولكن إذا دعوتَ الناسَ غداً فادعُنا معهم ، فقال مروان : لا تَقبَل أ يُّها الامير عُذْرَهُ حتّى يُبايع وإلاّ فاضرِبْ عُنُقَهُ ، فغضبَ الحسين (ع) ثمّ قال : وَيلٌ لكَ يا ابن الزّرقاء أنتَ تَضْرِبُ عنقي ، كَذِبتَ واللهِ وَلؤمتَ ، ثمّ أقبلَ على الوليد فقال : أ يُّها الامير ! إنّا أهلُ بيتِ النبوّةِ ، ومعدنُ الرِّسالةِ ، ومُخْتَلَفُ الملائكةِ ، وبِنا فَتَحَ الله وبِنا خَتَمَ ، ويزيدُ رجلٌ فاسِقٌ ، شارِبٌ الخمر ، قاتِلُ النّفس المُحَرَّمة ، مُعْلِنٌ بالفسق ، ومِثْلي لا يُبايِعُ مِثْلَهُ ، ولكن نُصْبِحُ وتُصْبِحونَ ، ونَنْظُرُ وتَنْظُرونَ أيّنا أحقُّ بالخلافَةِ والبيعةِ ، ثمّ خرج (ع) فقالَ مروان للوليد : عَصَيْتَني ، فقال : ويْحَكَ ، إنّكَ أشَرْتَ بذهابِ ديني ودُنياي ، واللهِ ما اُحِبُّ أنَّ مُلْكَ الدُّنيا بأسرِها لي وأ نّني قَتَلْتُ حُسيناً ، واللهِ ما أظنُّ أحداً يلقى الله بدم الحسين وهو خفيف الميزان ، لا يَنظرُ الله إليه ، ولا يُزَكِّيهِ ، ولهُ عذابٌ أليم » .
انفضّ المجلس ، وانصرف الحسين عائداً إلى أهله وقد عزم على الجهاد ، وتأهّب للمواجهة ، واستعدّ للكفاح ، ثمّ قرّر التحرّك وإعلان الثورة ، وأن يتّخذ مكّة المكرّمة مقرّاً للانطلاق ، وميداناً للتحرّك .
المصدر : كتاب الامام الحسين بن عليّ (عليه السلام).