اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الآية الثانية :
وقد وضّحت الآية الثانية علاقة التقوى بالمعرفة توضيحاً أكثر من الآية السابقة وصرّحت : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً ... ) .
إنَّ ( الفرقان ) كما يقـول بعض أئمّة اللغة : ( اسم مصدر ) ، وادّعـى بعضٌ آخر أنّه ( مصدر ) ، إلاّ أنّ أغلب المفسّرين يصرّحون بأنّ له ـ في موارد كهذا المورد ـ معنى فاعليّاً مقروناً بالتأكيد ( أشبه ما يكون بمفهوم صيغة المبالغة ) ، ومعناه الشيء الذي يَفرق بين الحق والباطل ، وله مفهوم واسع يشمل القرآن المجيد ، ومعجزات الأنبياء ، والأدلّة العقلية الواضحة ، وشرح الصدر ، والتوفيق ، والنورانية الباطنيّة وغير ذلك .
وبهذا ، فالقرآن يقول بأنّ ( التقوى ) هي الأرضية التي تُعدّ للمعرفة والتي يمكن الاستدلال بها تماماً في بعض المراحل ، وتنطوي في المراحل الأخرى ضمن الإمدادات الإلهية المعنوية .
سمّى القرآنُ المجيد يوم معركة بدر ( يوم الفرقان ) ؛ وذلك من حيث إنّه يوم شهد آيات الله البارزة تؤيّد جُنْد الإسلام ضد جند الشرك ، فبالرغم من عِدَّة وعدد المشركين الذي يُقدّر بثلاثة أضعاف عدد المسلمين ، تحمّلوا ضربات قاسية من المسلمين لم يتوقّعها أحد . إضافة إلى هذا ، فإنّ معركة بدر كانت أوّل مواجهة مسلّحة بين المسلمين والمشركين انفصلت بها صفوف المسلمين عن المشركين ؛ ولذا سُمّيت بـ ( يوم الفرقان ) .
وينبغي الالتفات إلى أنّ ( فرقاناً ) جاءت بصيغة نكرة ومطلقة ، فدلّتْ على عظمة ذلك النور الإلهي وعلى سِعَتِهِ ، بحيث يشمل المسائل الاعتقادية والعملية وكل إبداء رأي تجاه أمور الحياة المهمّة ، وعلى هذا ، فثمرة شجرة التقوى هي الولوج في كل خير وبركة والابتعاد عن كل شرٍّ وفساد .
يقول الفخر الرازي في شرحه لهذه الآية :
بما أنّ لفظ الفرقان مطلق فينبغي حَمْله على كلّ ما يفرّق المؤمنين عن الكافرين ، فهذا الفرقان إِمّا في أحوال الدنيا وإِمّا في أحوال الآخرة ، والذي يتعلّق بأحوال الدنيا إِمّا أنّه يتعلّق بالقلب وهي الأحوال الباطنة أو في الأحوال الظاهرة ، فبالنسبة للقلب والباطن فالله يهدي قلوب المؤمنين ويُلقي فيها المعرفة ويشرح صدورهم ويمحو عنها الحقد والحسد والبغض والعداوة ، بينما يمتلئ قلب المنافق والكافر من هذه الرذائل والصفات السيّئة ؛ لأنّ القلب إذا تنوّر بنور الإيمان زالتْ ظلمات هذه الرذائل عنه ، أمّا الذي يتعلّق بالظاهر ، فالله ينصر المسلمين ويفتح لهم ويمنحهم الرفعة .
الآية الثالثة :
والآية الثالثة التي هي جزء صغير من أطول آية في سورة البقرة أي الآية : (282) ، بعـد أنْ بيّنتْ عدداً من الأوامر الإلهيّة قالتْ : ( ... وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ... ) .
يقول القرطبي في تفسيره :
( إنّه وعدٌ من الله تعالى بأنّ مَن اتّقاه علّمه ، أي يجعل في قلبه نوراً يُفهم به ما يُلقى إليه ، وقد يجعل الله في قلبه ابتداء فرقاناً ، أي فصلاً يفصل به بين الحق والباطل ) .
إنّ هذا الحديث لا يعني ترك كسب العلم والاكتفاء بتهذيب النفس ـ كما يقول بعض الصوفية وأشخاص منحرفون ـ بل المراد هو أنّ التقوى تهيّئ الأرضية لكسب العلم الحقيقي ، أشبه ما يكون بالأرض الخصبة والمُعدَّة لنثر البذور .
صحيح أنّ جملة ( اتَّقُوا اللَّهَ ) ليست شرطاً ، وأنّ جملة ( وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ) ليست جزاء لها ؛ ولهذا أنكر البعض العلاقة بين التقوى والعلم المستفادة من هذه الآية ، لكن ممّا لا شكّ فيه هو أنّ اقتران أحدهما بالآخر لم يكن اعتباطاً ، بل هو تلميح إلى العلاقة الموجودة بين هذين الاثنين ، وإلاّ فيعرّض انسجام الآية للسؤال .
الآية الرابعة :
إنّ رابع وآخر آية بيّنت العلاقة بين التقوى والمعرفة بوضوح ، فبيّنت ثلاثة أُجور للذين يتّقون الله ويؤمنون برسوله :
الأوّل : يُؤْتِكُمْ الله كفلَيْنِ أو نصيبين من رحمته ، نَصيباً لإيمانهم ونصيباً لتقواهم ، أو نَصيباً لأجل إيمانهم بالأنبياء السالفين ونصيباً لأجل إيمانهم بالرسول ( صلّى الله عليه وآله ) ، وبالرغم من أنّ المخاطَبِين في الآية مؤمنون إلاّ أنّ الله يأمرهم أنْ يؤمنوا بالرسول ( صلّى الله عليه وآله ) ، كما أنّ شأن نزول الآية يبيّن أنّها بصدد فريق من نَصارى الحبشة الذين سمعوا القرآن وآمنوا بنبيّ الإسلام ( صلّى الله عليه وآله ) .
والثاني : هو جعل الله لهم نوراً ـ لأجل إيمانهم وتقواهم ـ يهتدون به في صراطهم : ( ... وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ... ) .
وبالرغم من أنّ البعض أراد تقييد مفهوم الآية والقول بأنّ النور الذي ذُكِرَ فيها إشارة إلى النور الذي يسعى بين أيدي المؤمنين وبإيمانهم في يوم القيامة ( كما تُشير إلى ذلك الآية (12) من سـورة الحديد : ( يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ ) ، لكن لا دليل لهم على هذا التقييد ، بل إنّ مفهومها ـ وكما يقول صاحب الميزان ـ واسع يشمل الأنوار الإلهية كلّها في الدنيا والآخرة ، وعلى هذا فتكون الآية شاهداً على العلاقة بين ( التقوى ) و ( المعرفة ) .
أمّا الأخير فهو : ( وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ، وهذا كلّه لأجل إيمانهم وتقواهم .
إيضاحات :
1 ـ علاقة العلم بالتقوى في الروايات الإسلاميّة :
وفي الروايات الإسلامية أيضاً تمّ بيان مدى تأثير التقوى على مسألة العلم ، هذه الروايات تبيّن بوضوح أنّ تطهير القلب والروح بالتقوى يُعدّ الأرضية لتلقّي المعارف الإلهيّة .
نذكر هنا الأحاديث التالية كنماذج لما جاء في الروايات الإسلامية :
1 ـ ونقرأ في حديث عن أمير المؤمنين(عليه السلام ) أنّه قال: ( مَن غَرَسَ أشجارَ التُقَى جَنَى ثِمَارَ الهُدَى ).
2 ـ وجاء أيضاً في إحدى خطب نهج البلاغة أنّه قال : ( أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنِّي أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ .. فَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ دَوَاءُ دَاءِ قُلُوبِكُمْ وَبَصَرُ عَمَى أَفْئِدَتِكُمْ وَشِفَاءُ مَرَضِ أَجْسَادِكُمْ وَصَلاَحُ فَسَادِ صُدُورِكُمْ وَطُهُورُ دَنَسِ أَنْفُسِكُمْ وَجِلاَءُ عَشَا أَبْصَارِكُمْ ) .
3 ـ وفي حديث عنه أيضاً أنه ( عليه السلام ) قال : ( للمتّقي هدىً فِي رَشَادٍ وتحرّج عَنْ فَسَادٍ ) .
4 ـ ونقرأ أيضاً في نهج البلاغة أنّه ( عليه السلام ) قال : ( أَيْنَ الْعُقُولُ الْمُسْتَصْبِحَةُ بِمَصَابِيحِ الْهُدَى ، وَالأَبْصَارُ اللاَمِحَةُ إِلَى مَنَارِ التَّقْوَى ) .
5 ـ ونختم حديثنا بحديث ذي معنى عميق عن الرسـول ( صلّى الله عليه وآله ) ، حيث قال : جاء في وصيّة الخضر لموسى ( عليه السلام ) : ( يَا مُوْسَى وطِّنْ نَفْسَكَ عَلَى الصَبْرَ تَلْقَ الحِلْمَ ، وأشْعِرْ قَلْبَكَ التَقْوَى تَنَلْ العِلْمَ وَرَضّ ( روّض ) نَفْسَكَ عَلَى الصَبْرِ تَخْلصْ مِن الإثْمِ ) .
2 ـ كيفية الارتباط بين ينابيع العلم والتقوى ؟
ما هو تأثير التقوى واجتناب الذنوب وترك التلوّث بها على مسألة المعرفة ؟
وبتعبير آخر : ما هي العلاقة المنطقية بين العلم والأخلاق ؟
في الحقيقة إنّ لهذَين الاثنين علاقة تقارب قوية ، وأي علاقة أقرب وأوثق من العلاقة المتبادلة بين هذين الاثنين ؟ فالتقوى ينبوع العلم ، كما أنّ العلم ينبوع التقوى ، وليس هذا بأمر طبيعي فحسب بل إنّه أصل أساسي للسير في طريق المعرفة .
فيمكن الاستدلال على تأثير التقوى على العلم بالطرق التالية :
أ ـ إنّ السنخيّة والتنسيق تسبّبان الجاذبية والارتباط دائماً . فعندما تتطهّر روح الإنسان وتُزَكّى بالتقوى تحصل جاذبية قويّة بينها وبين المعارف والعلوم الحقيقية ، فالسنخية تبعث على الارتباط العجيب .
ب ـ إنّ مِنْجَلَ التقوى يَحصد جميعَ الأشواك من مزرعة روح الإنسان ، ويُعدُّ القلبَ ويهيّئُهُ لنموّ بذور العلم والمعرفة ، بل إذا دقّقنا النظر فإنّ بذور العلوم جميعها قد نثرها الله في هذه المزرعة ، والمهم في الأمر هو حصد الأعشاب المزاحِمة وإرواء المزرعة .
وقد جاء في حديث للمسيح ( عليه السلام ) مخاطِباً فيه أنصاره قائلاً : ( ليس العلم في السماء فينزل إليكم ، ولا في تخوم الأرض فيصعد عليكم ، ولكنّ العلمَ مجبول في قلوبكم ، مركوز في طبائِعكم ، تخلّقوا بأخلاق الروحانيّين يظهر لكم ) .
ج ـ نعلم أنّه لا وجود للبخل والحسد في مبدأ عالم الوجود ، وعلى ما جاء في الآية : ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) ( سورة الحجر : الآية : 21 ) ، فإنّ خزائن النعم غير المتناهية عند الله ، ما ينقصه زيادة كرمه وكثرته شيئاً ، بل إنّ جُوده وكرمه يتجلّى أكثر ، ( وَلا يَزِيدُهُ كَثْرَةُ العَطاءِ إلاّ جُوداً وَكَرَماً ) .
وعليه ، فإنّ الحِرْمَان سببه عدم أهليّة الأشخاص ، إنّ التقوى تجعل الإنسان أهلاً للفيض الإلهي ، وأيّ فيض أرفع شأناً من المعارف والعلوم الإلهية ؟
إنّ القلوب كالأوعية كما يقول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( إنَّ هذِهِ الْقُلُوب أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُها أَوْعَاهَا ) والمهم هو أنْ نوسّع هذه الأوعية ، وأنْ لا تكون مقلوبة لا تسع ولو لقطرة واحدة ، وهذا الأمر ممكن في ظلّ التقوى .
أمّا التأثير المتبادل بين العلم والتقوى :
فهو أنّ العلم الحقيقي يمحو جذور الرذائل الأخلاقية وينابيع الإثم والذنب ، ويمثل أمامه عواقب الأمور ، وهذه المعرفة تُعِين الإنسان على تبلور التقوى في قلبه وعلى ابتعاده عن الإثم ، ويتّضح من هنا أنّ العلم ينبوع للتقوى كما أنّ التقوى ينبوع للعلم ، غاية الأمر أنّ مرحلة من التقوى تسبّب مرحلة من العلم ، وتلك المرحلة من العلم تسبّب مرحلة أرفع من التقوى ، وعلى هذا المنوال فإنّ كلاًّ منهما يؤثّر في الآخر تأثيراً متبادلاً ، وقد تكون الآية (201) من سورة الأعراف مشيرةً إلى هذه النقطة :
( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ) . أي إنّ التقوى تكون في البداية ، ثمّ التذكّر ، ثمّ البصيرة ، والنتيجة هي النجاة من وساوس الشياطين .
3 ـ استغلال العلاقة بين العلم و التقوى :
بالرغم من أنّ علاقة المعرفة بالتقوى علاقة لا يمكن إنكارها ، سواء من وجهة نظر القرآن المجيد أو من وجهة نظر الدليل والعقل ( وقد بيّنّا ذلك بالتفصيل ) ، إلاَّ أنّ هذا الحديث لا يعني ترك طرق كسب العلم والمعرفة المتعارفة ، والاستغناء بتهذيب النفس عن كسب تنصّب العلوم على قلوبنا العلم ، كما ظنّ ذلك عدد من الصوفية الذين اتّخذوا هذه المسألة حجّة لمُقَارَعة المعرفة وكسب العلم وظلّوا في جهل دامِس .
إنّ الإسلام أَوْجَبَ كسب العلم بدرجةٍ حيث اعتبر الحضور في مجلس العلم كالحضور في روضة من رياض الجنّة : ( مجلس العلم روضة الجنّة ) . كما عُدَّ النظر إلى وجه العالِم عبادة ( النظر إلى وجه العالم عبادة ) ، وكل خطوة يخطوها في سبيل العلم فهي خطوة نحو الجنّة . وقد عُدَّ مِدَاد العلماء أفضل من دِمَاء الشهداء . وحفظ الحديث وكتابته من الفضائل العظيمة .
ويدعو الإسلام ـ من جهة أخرى ـ إلى تهذيب النفس وتزكيتها ؛ لأجل تهيئتها لقبول المعارف والعلوم الإلهيّة . وعلى هذا ، فأولئك الذين تركوا طلب العلم وأَوْصَوا زملائهم وأتباعهم بتركه والتوجه إلى تصفية الباطن وتزكيتها على خطأ ؛ لأنّ التزكية هذه غالباً ما تنحرف عن جادّة الصواب بسبب عدم اقترانها بالعلم والمعرفة ، وكذلك أُولئك الذين انهمكوا في كسب العلوم الرسمية وأهملوا تهذيب النفس ، فإنّهم في ضلالة ، نعم ينبغي السعي نحو كليهما .
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي