اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الشيخ نوري حاتم
عندما يظهر الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ويتولى قيادة الأمة بعد الغيبة الطويلة سوف يحقق تحولاً تاريخياً في العالم أجمع ويُوجد مجتمعاً عالمياً واحداً في تركيبه الحضاري والسياسي.
إن المجتمع الذي سيوجده المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) مجتمع فريد لم يرى التاريخ نظيراً له في جميع المستويات والأبعاد الفردية والاجتماعية والحضارية.
ولا نريد في هذا البحث الدخول إلى معرفة تفاصيل هذا التحول والتغيير الإنساني الفريد إنما نريد هنا أن نبحث الطريقة التي سيمارسها الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) في عملية التغيير هذه وأنه كيف يستطيع أن يحقق ما لم يتحقق للبشرية على امتداد وجودها التاريخي السحيق.
توجد عدة آليات يعتمد عليها الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) في قيادة عملية التغيير وهذه الآليات حينما تلامس الحياة العامة للفرد والمجتمع تقوم بعملية التربية والتهذيب متى ما حاول الإنسان الفرد الابتعاد عنها جذبته إليها – اختيارياً – ودفعته بلطف ورحمة إلى الانسجام معها كما هو الحال في قوى الجاذبية كلما أراد شيء التخلص منها والانطلاق إلى الأعلى يجد نفسه يلتصق بالأرض من جديد بفعل هذه الجاذبية ولكن الفارق بين فعل الجاذبية وبين فعل الآلية التي يعتمد عليها الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) في عملية التغيير الكبرى في أن تلك الجاذبية تجذب الأشياء رغماً عنها ولا تسمح لأي شيء بالانفكاك عنها إلاّ بجاذبية أقوى تدفعه إلى الأعلى, في حين أن عمل الآليات التي يعتمدها الإمام المهدي في عمله تجذب الإنسان إلى السطح المستقيم تجربة واختيار ورغبة في الانفعال مع تأثيرات هذه الآليات على نفس الإنسان.
وفي ما يلي أهم هذه الآليات:
أولاً: الاعتماد على المجتمع في عملية التربية
من الواضح أن للمجتمع دوراً أساسياً في عملية تربية الفرد وترشيده وتنمية إدراكاته وتهذيب عواطفه إلى جانب دور الأسرة في ذلك و إلى جانب دور المقومات والتركيبة الأساسية في تكوين الفرد الفسيولجي. فالإنسان ينمو في بيئة و ينمو تحت إشراف غيره ولا بد أن يكون هذا الإشراف سليماً من الناحية العليمة وأن تكون البيئة التي يعيش فيها مناسبة له, من هنا فإن الإمام المهدي (عليه السلام) يستفيد من آلية المجتمع وديناميكيته الخاصة في عمله التربوي. و يمكن أن نلاحظ دور المجتمع في عملية التربية التي يخوضها الإمام (عليه السلام) كما يلي:
1- إن الإمام المهدي (عليه السلام) سوف يقوم بعملية كبرى في تغيير المجتمع ككل من خلال تعميق المفاهيم العامة للإسلام إذ الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) لا يكتفي بالطرح البسيط لتلك المفاهيم؛ إنما يطرحها بصورة تتصل مع الاستجابة العملية سلوكاً وفكراً وعاطفة في كيان المجتمع بالشكل الذي يؤسس خطّاً وإطاراً اجتماعياً تبرز فيه المعالم الكاملة للمفاهيم الإسلامية وأثرها العملي وهذا ما يُسمى بلغة العقائد بـ (العصمة الاجتماعية العامة) أي أن المجتمع في عصر الظهور مجتمع يتصف بالعصمة بشكل عام أي أن المجتمع لا يمكن له أن يمارس ظاهرة اجتماعية منحرفة عن خط الاستقامة كما هو حال الأمم السابقة حيث انحرفت بعض الأمم فأشركت بالله تعالى أو مارست اللواط أو مارست التخفيف في الميزان أو قتل البنات أو ما شاكل ذلك من انحرافات عامة سقطت فيها المجتمعات السابقة في التاريخ. وحينما يكون المجتمع نظيفاً من الانحرافات, بعيداً عن السقطات في الفكر والسلوك والعاطفة؛ فإن ذلك سينعكس على الفرد الذي يدخل جديداً إلى ساحة المجتمع وسيتطبّع بالطبع الاجتماعي العام. إذ ان الفرد الذي يرى مجتمعاً موحّداً مؤمناً بالله مستقيماً في سلوكه ويرى في تلك الاستقامة الضمان الأكيد لربح الدنيا والآخرة, بل ويتسابق في عمل الخير والفلاح والصلاح, ?وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ?[1], ?وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ?[2].
فإذا فرضنا أن الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) يشيد مجتماً سليماً قائماً على أساس الإيمان والقيم الصالحة فإن ذلك سيدفع الفرد إلى تلقي تلك التعليمات بصورة عفوية والتفاعل معها بلا عناء وجهد تربوي شخصي.
ثم هنالك شعور فردي عميق في كيان كل فرد في لزوم التطابق مع الكيان الاجتماعي العام في النطاق النظري والعملي, وذلك لأن ذلك التطابق – عادة – يؤمّن للإنسان ضروراته المادية والمعنوية. إذ ان الشذوذ الاجتماعي مهما كانت نسبة مصداقيته, سوف يمنع الفرد من التعاطي مع المجتمع, وسوف يدفعه إلى التصادم معه وحرمانه من إمكان الاستفادة من إمكانات المجتمع في تلبية حاجاته الأساسية. وبعبارة أخرى, إن التعايش مع المجتمع والتطابق معه في ضوابطه وظواهره أسلوب وحيد في التعامل مع المجتمع وتلبية حاجاته. ولذلك على الأشخاص الذين يريدون أن يطرحوا صيغة جديدة في مجال من مجالات المجتمع أن يتحملوا ضغوطاً عنيفة, وهذه الضغوط تتصاعد كلما تمايز الفرد في سلوكه وفكره عن الاتجاه الاجتماعي العام.
وتأسيساً على ذلك فإن الإمام المهدي (عليه السلام) يبني مجتمعاً قويّاً في فكره وعقائده, واضحاً في سلوكه وعواطفه, دقيقاً في التعارض مع الفرد.
فالانسجام مع هكذا مجتمع يكون الأسلوب الوحيد للتحرك في إطار المجتمع والتعاطي معه.
ولا يعني ذلك أن الفرد سيتحول لولباً في ماكنة المجتمع, إنما يعني أن المجتمع يتحرك في إطار رعاية الفرد وضرورة تأمين السلامة النفسية والروحية والمادية له بصورة لا تسلب اختياره ولا تحرمه من الفاعلية والمبادرة في هذا الميدان.
فالمجتمع إنما يمارس دور التوجيه التربية بصورة لا تسلب من الفرد حريته ومسئوليته الشخصية, إنما يمارس ذلك الدور في إطار رعاية الفرد ومساعدته في تأمين فرص التطور والرقي وتحقيق أهدافه الشخصية التي هي أهداف المجتمع ذاته.
»إن المجتمعات تدين في وجودها إلى تنظيم سلوك الأفراد الذين تتألف منهم وتكييفه تكييفاً متبادلاً, وكذلك تنظيم مواقفهم وتكييفها. ويتم التوصل إلى هذا التنظيم عن طريق إسناد أوضاع معينة إلى كل فرد وتدريبه على القيام بالأدوار التي تقترن بها«[3].
إن الإمام المهدي يبني مجتمعاً قائماً على أساس ديناميكية خاصة تتعامل مع كل فرد بكل أشواقه واحتياجاته وتهيئ له فرص العمل والتكامل؛ فكل فرد يجد نفسه في دائرة واسعة من مجالات الفرص للاستفادة منها في تأمين شروط حياته الفردية والاجتماعية ويجد فرصاً كبيرة في تطوير كفاءته وشخصيته فلا حدود أمام حركة التطور والتكامل, بل جميع أفراد المجتمع يشعرون بأنهم مسؤولون عن مساعدة الفرد في حركته وفي تطوره وفي سعيه العام. الأمر الذي يدفع الفرد إلى الإحساس بالمسؤولية الشخصية إزاء هذا الموقف الاجتماعي العام الذي يثق بشخصه ويضع أمامه شروط التطور والتكامل, وهذه الخصوصية الاجتماعية ذات تأثير بارز في نشاطات الفرد وحركته.
ويمكن ملاحظتها من خلال المقايسة مع مجتمعاتنا الراهنة التي تتحرك في دائرة لا يجد الفرد خلالها أية فرصة للعمل والحركة إلاّ من خلال الصراع أو من خلال العلاقات والتصرفات الاجتماعية المنحرفة. فإن الفرد داخل هذه الدائرة يشعر بحرمانه من فرصة العمل والتطور, ولا يشعر بأن المجتمع يثق فيه ويضعه في موضعه بما يملك من طاقات وإمكانيات, بل وبما يملك من كفاءات حقيقية يمكن أن يخدم المجتمع بها, ولهذا فإن تطور الفرد وتكامله المادي والمعنوي يواجه عراقيل وعقبات كبيرة تحبط محاولاته وتضاعف عوامل الفشل والانكسار.
ثانياً: يــــتبع
الهوامش:
[1] - المطففين: 26.
[2] - آل عمران: 133.
[3] - دراسة الإنسان, ص179, تأليف رالف لنتون.

تسلم الانامل

