اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الوصول لمقام التوحيد المطلق مُيَسَّر للجميع
نقول : إنَّ منصب النبوّة والإمامة أمر اختصاصيّ، ولكنَّ الوصول إلی مقام التوحيد المطلق والفناء في الذات الاحديّة الذي يُعبَّر عنه بالولاية ليس أمراً اختصاصيّاً أبداً، ودعوة الانبياء والائمّة (علیهم السلام) أُممهم إلی هذه المرحلة من الكمال
ودعوة رسول الله (صلّى الله علیه وآله وسلّم) أُمّته إلی اقتفاء آثار مسيره حيثما سار، خير دليل علی إمكان السير إلی ذلك المقصد، وإلاّ لزم أن تكون الدعوة لغواً. لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُوا اللَهَ وَالْيَوْمَ الاْخِرَ وَذَكَرَ اللَهَ كَثِيرًا.
روي عن طريق العامّة، عن رسول الله (صلّى الله علیه وآله وسلّم) أنـّه قال :
" لَولاَ تَكْثِيرٌ فِي كَلاَمِكُمْ، وَتَمْرِيجٌ في قُلُوبِكُمْ لَرَأَيْتُمْ مَا أَرَي، وَلَسَمِعْتُمْ مَا أَسْمَعُ "
هذا الحديث يبيّن بوضوح سبب عدم الوصول إلی الكمالات الإنسانيّة، وهذا السبب هوالخيال الشيطانيّ الباطل، والافعال العابثة اللاغية.
وروي أيضاً عن طريق الخاصّة :
" لَولاَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ يَحُومُونَ حَوْلَ قُلُوبِ بَنِي آدَمَ لَرَأَوْا مَلَكُوتَ السَّمَـاوَاتِ والاْرْضِ "
ومن جملة آثار تلك المرتبة الإنسانيّة العالية : الإحاطة الكلّيّة ـ بقدر الاستعدادات الإمكانيّة ـ بالعوالم الإلهيّة، ونتيجة هذه الإحاطة الاطّلاع علی الماضي والمستقبل والتصرّف في موادّ الكائنات، إذ للمحيط غاية التسلّط علی المحاط علیه، فهومرافق للجميع، وحاضر في كلّ مكان.
يقول أحد العارفين وهو الشيخ عبد الكريم الجيليّ في كتابه « الإنسان الكامل » :
«أذكر مرّة عرضت لي حالة في فترة مرّت كلمح البصر وجدت نفسي خلالها متّحدة مع جميع الموجودات بحيث كنت أراها جميعاً حاضرة لدي عياناً، ولكنَّ هذه الحال لم تستمرّ لاكثر من لحظة»
والمانع من دوام استمرار هذا الحال هو الاشتغال بأُمور البدن، وأنَّ حصول كلّ هذه المراتب متوقّف علی ترك تدبير البدن
يقول أحد عرفاء الهند واسمه الشيخ ولي الله الدهلويّ في كتابه «الهمعات» :
أَطلعوني علی أنَّ التخلّص من آثار النشأة المادّيّة يحصل بعد مرور خمسمائة عام علی اجتياز عالم المادّة والموت، وهذه المدّة مطابقة لنصف يوم من الايّام الربوبيّة، لقوله عزّ من قائلٍ : وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ.
ومعلوم أنَّ سائر درجات وفيوضات هذا العالم بلا حدّ ولا نهاية، ثمّ لمّا كانت الالفاظ توضع للمعاني علی أساس الاحتياجات البشريّة فتتّسع بمقدار اتّساعها، لذا لم يكن من الممكن بيان الحقائق والانوار المجرّدة لعالم الربوبيّة بالالفاظ، وكلّ ما قيل فيها لا يعدو كونه إشارة أو كناية ليس بمقدورها إنزال تلك الحقائق إلی مستوى الافهام.
فالإنسان المادّيّ باعتبار أنـّه يحيا في أظْلَمِ العَوَالِمِ الإلهيّة كما تصرّح بذلك بعض الاخبار : «أنت في أظلم العوالم» لا يضع الالفاظ إلاّ لما يقع علی بصره أوتناله يده ممّا يدخل في إطار حاجاته اليوميّة، أمّا سائر العوالم والتعلّقات والتشعشعات والانوار والارواح التي لا علم له بها فلا يضع لها ألفاظاً، فلا يوجد ـ بناءً علی ذلك ـ لغة في العالم يتسنّي لها التحدّث عن هذه المعاني السامية، فكيف يمكن إذَن توصيف هذه المعاني وبيانها ؟
والذين تحدّثوا عن هذه الحقائق طائفتان، هما :
الاُولى : الأنبياء الكرام (علیهم السلام)، حيث ولا شكّ كانت لهم رابطة مع عوالم ماوراء المادّة، ولكنّهم بحكم الحديث القائل : نَحْنُ مَعَاشِرَ الاَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَي قَدْرِ عُقُولِهِمْ اضطرّوا أن يعبّروا عن هذه الحقائق تعبيراً قابلاً لإدراك عامّة الناس له؛ ولهذا غضّوا النظر عن بيان الحقائق النورانيّة والغاية الساطعة، ولم يفصحوا عن تبيان ما لا يخطر علی قلب بشر، وكانوا يعبّرون عن حقيقة مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ عَلَي قَلْبِ بَشَرٍ بتعابير مثل الجنّة والحور والقصور وغيرها، ولهذا اعترفوا في النهاية بأنَّ حقائق تلك العوالم لا يحدّها وصف ولا يسعها بيان.
الثانية : طائفة من الناس كان نصيبهم من خلال متابعة طريق الأنبياء التشرّف بإدراك هذه الحقائق والفيوضات بقدر اختلاف استعداداتهم، وقد كان كلامهم تحت ستار الاستعارة والتمثيل.
رسالة لب الأباب لسماحة العلامة آية الله الحاج السيد محمد حسين الحسيني الطهراني (قدس سره)
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين