فحاله حال من كان نائماً وذهبت عنه قافلته في وسط الصحراء واستيقظ من نومته (الغفلة) وظل متحيراً ماذا يفعل أي طريقٍ يسلك, والصحراء مليئة بالأخطار التي لا يؤمن على نفسه منها, فلا بد له من -التعرف على طرق الصحراء ومخاطرها- مرشد ودليل يدله على سلوك الطريق الصحيح الآمن حتى يصله إلى بر الأمان وبلوغ الغاية التي من أجلها تتحمل المشاق والكدح والجهد للوصول إليها .
تخال طائفة من الناس أنَّه ممكن للإنسان عبور الطريق الخطير في السير إلى الله بدون هادٍ ودليل, وأن هذا لخطلٌ من القول! ذلك إن تعلم أيسر الأعمال المادية في الدنيا لا يتأتى بغير الاستناد إلى معلم... فكيف يصح إذن أن يتعرف المرء على أكثر الأعمال استغلاقاً - وهو أن يتحول إلى إنسان كامل- بدون أستاذ يدله ويرشده؟!
يقول حافظ الشيرازي عليه الرحمة في هذا المعنى (ما ترجمته ):
لا تــعبرنَّ وحــــدك هذا الطريــ ــق دون أن ترافـــــق الخضَر
فــإن فيـها ظلمــــــــات صعــــبه أخاف مــن ضــياعك الخطر!
فكل من يريد أن يسير في هذا الطريق المليء بالمخاطر والمليء بالمعوقات وقطّاع الطرق لابد له من خضر(أستاذ) يأخذ بيده ويدله على المسار الصحيح والطريقة المثلة في السير.
والغريب أنك تجد من يمرض ويتألم من مرضه يبادر سريعاً إلى التوجه لطبيب للمعالجة وأخذ الدواء للشفاء من المرض والقضاء على الألم, ولا تجد من به أمراض وليس مرضاً واحداً في قلبه من حقد وحسد وغضب وعصبية وتكبر وغرور وبخل و..و..و..إلخ,لا يبادر إلى التوجه لطبيب خبير لمعالجة هذه الأمراض لاقتلاعها والشفاء منها, واعتقد أن السبب واضح جداً وهو إنه لو كان يتألم من هذه الأمراض أو من أحدها لبادر فوراً للبحث عمّن يعالجه منها, لكن مادام يستأنس منها ولا تسبب له أي ألم في الدنيا فلن يخطو خطوة واحدة للعلاج منها, ولو وصل إلى قناعة نفسية إن الأمراض المعنوية هي سبب وحجب مانعة للوصول إلى الله, وأنها سوف تكون وبالاً عليه في عالم البرزخ ويوم القيامة وسوف يئن ألماً من عذاب هذه الأمراض الأبدية لسارع إلى معالجة هذه الأمراض وللتخلص منها .
وعليه لابد من طبيب وأستاذ لتزكية النفس ذو خبرة عالية في مجال معالجة النفوس وإرشادها على الدواء الناجع والطريقة المثلى المناسبة لكل حالة تورد عليه, أمَّا اعتماد الإنسان على نفسه في هذا المجال فلن يزيد الطين إلا بلاً ويعقد الأمور تعقيداً وقد يوصله إلى أمور لا تحمد عقباها, ويصبح حاله كمن يريد أن يعالج جسمه من مرض وهو لا خبرة له في هذا المجال ويعطي نفسه دواء حسب تشخيصه وهواه, فماذا نتوقع أن يكون مآل أمره, أو يكون حاله كمن يريد أن يسلك طريقاً في الصحراء وهو لا يعرف أي طريقٍ يسلك للوصول إلى هدفه المنشود.
روي عن أحد الأولياء, وكان قد تربى على يديه عدد كبير من التلاميذ حتى صار مربياً معروفاً, قال:( أحد التلاميذ كان على درجة متميزة من الاستعداد, وكنت أود أن يمضي تلقيه للكمالات الروحية على نحو أفضل وأسرع, لكنه كان -في أول أمره- على شيء من التَّأبَّي والمشاكسة, ولم يكن يريد أن يذعن لكل ما يُلقى إليه، قال لي يوماً: أيكون من الضروري للمرء - في سيره إلى الله وتحصيل المقامات الروحية- أن يعتمد على أستاذ .. أم يكفيه استناده إلى عقله وتفكيره؟ قلت له: إنَّ أي عمل -حتى لو كان دون هذا- لابد فيه من أستاذ, فكيف إذن بعمل صعب هو معالجة (إنسانية) الإنسان, وقديماً قالوا: (هين أن يغدو المرء معمماً.. لكن ما أصعب أن يغدو إنساناً)!
إنه ليس في وسع المرء أن يطوي طريقاً محفوفاً بالمخاطر بغير مرشد يرشده وكيف يمكنه أن يبلغ نضجه الروحي -الذي هو من أعقد الأعمال وأدق المسائل العلمية - بدون أستاذ يدله على الحقيقة؟).[2]
وقصة موسى والخضر لها من المضامين المعرفية والسلوكية ما يتعلق بالأمر الذي نحن بصدده فتأمل وتدبر.
ونخلص إلى نتيجة من كل ذلك إلى إن على من يريد أن يسير في طريق السير والسلوك إلى الله (العرفان العملي) عدة أمور منها:
1- تعين أستاذ له خبرة في هذا المجال وثقة يستأمن عنده النفس بالوصول بها إلى الكمال المطلق ومطلق الكمال, يرشده ويسدده خطوة خطوة لا يتركه في جميع مراحله ومنازله التي سوف يمر عليها.
2- ينبغي لمن حضي بأستاذ في هذا المجال أن يخضع له ويتواضع مهما كانت شخصيته وعلميته, وأتذكر أن أحد المراجع رفض المرجعية وذهب مسافراً إلى بلدٍ بعيدٍ عن بلدهِ للحضور في درس لتهذيب النفس عند أحد الأشخاص الذي هو دونه بكثير في العلم, وذلك إيماناً منه إن هذا الأستاذ أفضل منه بكثير أخلاقياً وروحياً ولا دخل للعلمية هنا, ولقد كان موسى عليه السلام نبياً من أولي العزم وكان يرى أنه لا يوجد أحد أرقى منه علمياً ومعنوياً ولكنه - مع هذا كله- ذهب للخضر هو بنفسه وهو في غاية التواضع نزولاً على طلبٍ من الله سبحانه وتعالى عزه على الرغم من أن الخضر كان أنزل منه رتبة ،حيثُ كان عبداً صالحاً ولم يكن نبياً.
3- ينبغي لمن وفق للحصول على أستاذ ثقة ومشهود له في هذا المجال بأنه من أهل هذا الفن و المعرفة أن يسلّم له ولا يعترض عليه في شيء يأمر به أو يفعله, وقد رأينا عند قراءتنا لقصة موسى والخضر عليهما السلام في القرآن أن الخضر شرط على موسى أن لا يسأل ولا يعترض على شيء يراه, وإن كان ظاهره غير صحيح وغير شرعي, ولكن موسى عليه السلام لم يستطع صبراً وقد أخلَّ بالشرط مما دعى الخضر إلى العمل بما شرط على موسى عليه السلام وهو الانفصال عنه لأنَّه لا يتحمل أكثر مما رآه ولا صبر له على ذلك.
4- على التلميذ في نهج السير والسلوك الالتزام والتقيد بما يأمر به الأستاذ وينفذ كل برنامج أخلاقي كان أو روحياً, وحتى إن كان فيه صعوبة ومشقة على النفس, ولا يحق له الامتناع والاعتراض, ومتى ما اعترض أو امتنع يحق للأستاذ أن يفارق التلميذ ولا يقبله أبداً, كما قال الخضر لما رأى موسى عليه السلام لا يطيق صبراً: (هذا فراق بيني وبينك).
وقد جاء في الأثر أن رسول الله صلى الله عليه وآله عندما كان يقص قصة موسى والخضر أنه قال بما مضمونه: ( ليت موسى صبر حتى نرى ما تسير إليه الأمور ....).
وإليك عزيزي القارئ بعض قصص الشباب الذين كانوا يسيرون بدون هدي الأستاذ وكيف أخفقوا,وماذا حصل لهم من توفيقات عندما وجدوا مرشدهم ودليلهم في هذا الطريق.
القصة الأولى :
على الإنسان أن يحدد هدفه يقول أحد الشباب السالكين:
لما منَّ الله (تبارك وتعالى) عليّ وصحوت من نوم الغفلة (لا يعنيني الآن أن أذكر كيف حدثت هذه الصحوة, فغايتي هنا الحديث عن مسألة أخرى..
ذهبت إلى عالم من أصحاب المعرفة العالية, فأجلسني في قبالته, وبشرني في البداية أن رأس الظفر والنجاح للسالكين إلى الله هي حالة اليقظة هذه والصحوة من رقاد الغفلة, وقال لي: إن حصول هذه الحالة في الإنسان يشبه حالة امرئ كان قد نام عن قافلته في صحراء ملأى بالأخطار, ثم استفاق ليجد نفسه وحيداً في هذه الفلاة, إن كل ما حصل عليه في هذه الحالة هو أنَّه استيقظ, لكنه لا يعرف في أي اتجاه يسير في هذه البرِّية التي لابد له من الخروج منها والخلاص من مخاطرها.
بعدها أوضح لي الأستاذ مراحل السير والسلوك, وعلمني ما ينطوي عليه عبور طريق السعادة هذا من المعاني والأسرار، لقد عرفني في مدة وجيزة ما لو أردت أن أجربه من تلقاء نفسي لأفنيت فيه عمراً, ثم لا أعلم أتوصلني تجربتي إلى الغاية أم لا, وكانت معاملته لي معاملة الوالد لولده, يعلمه المشي خطوة خطوة ويدله بعطف ورأفة على مراشده وأهدافه.
قال لي في اليوم الأول: أول ما يفعله المستيقظ من نومة الغفلة أن يحدد هدفه: إلى أين يتجه؟ إلى أي ديار يعزم على الرحيل؟ وأي حبيب يبتغي؟ وما هي رغباته؟ أتراه يهدف إلى أن يغدو من أصحاب المكاشفة والمشاهدة, ومن أهل الدعاء المستجاب والنفس المؤثر؟
أيريد أن يتجمد الماء تحت قدميه إذا مشى على الماء, فيسلب من الناس ألباب الذين جعلوا عقولهم في عيونهم, وينبهروا به على أنَّه من أولياء الله..
أم يلتمس أن يبلغ مقاماً يكون من قوة النفس ما يجعله مطلعاً على قلوب الناس, ويخبرهم عن خفايا الأمور.. حتى يصل إلى الإحاطة بالعلوم الغريبة وأسرار العالم ورموزه؟
إن هذه القضايا كلها ليست هدفاً حقيقياً للإنسان الذي هو خليفة الله, والمرآة العاكسة لصفات الله (تعالى) وأسمائه، وما كان الله ليخلق الإنسان من أجل أشياء من هذا القبيل.
في البدء.. قال (تبارك وتعالى) للملائكة:﴿ إني جاعلٌ في الأرض خليفة ﴾[3] . وقال في موضع آخر:﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾ [4] .
وهذه الحقائق تعني أن المرء متى ما جعل هدفه ما أراده الله له من وراء الخلقة و التكوين.. فعليه أن يكون - إذا بلغ آخر مرحلة في الطريق- مرآة لتجلي المعاني الإلهية.. واصلاً إلى الكمالات, مستأنساً بالله, فانياً في صفات الله وأسمائه, مصبحاً خليفة لله وأولياء من أوليائه, عندها لا يشينه الحصول على قضايا مثل المكاشفة والمشاهدة وطي الأرض والتجرد الروحي, إذا لم يعكف هو على شيء من هذه القضايا فيعيق حركته الصاعدة إلى الله (جل جلاله)؛ لأن المرء إذا كان ما يزال متلبساً بواحدة من الصفات الحيوانية أو الشيطانية.. فإن امتلاكه كافة العلوم الغريبة واكتسابه القدرة على الأعمال المدهشة العجيبة لا يعصمه من أن يكون ذا سيرة حيوانية أو شيطانية, بسبب تلك الصفة التي تسكن في باطنة.
إن على المرء أن يبادر من أول وهلة ليكون في منأى عن الرذائل, ويلتمس التحقق بالصفات الكمالية.. فيغدو مظهراً لأسماء الله ومجلى لصفاته, وعندها تصبح إرادته إرادة إلهية, وبصره بصراً إلهياً, ويده وسمعه كذلك, ويصير قلبه بيتاً للحق (جل وعلا).. فيفوز آنئذ بمقام (الخلوص), ويحيى حياة طيبة رخية لا يشوبها أدنى خوف, متقلباً في أحضان معبوده الأزلي ومحبوبه الحقيقي, ولن يكتب لابن آدم أن يصل إلى الكمال الواقعي إذا كان له مقصد غير هذا المقصد العظيم.
قال لي الأستاذ هذا كله, منذ البداية, وبعدئذٍ -خاصة وإني رأيت بعضاً من الذين أرادوا طي طريق المخاطر كما تشتهي أنفسهم, فضلوا وضاعوا - شكرت للأستاذ وصاياه, وقلت: لو أنَّ الأستاذ لم يعاجل فيوصني بوصاياه تلك لكان شأني شأن هؤلاء: شغوفاً بالمكاشفة حتى تكون في نظري هي حبيبي و مقصودي وإلهي, أو أن يزدهيني العجب فأروح أتحدث عن طي الأرض والتجرد الروحي, أو أن أغتر بما أرى في المنام من رؤى تنطبق بعدئذ على الواقع وتتحقق, أو أن أعرف -بالفراسة أو بالتسلط الروحي- ما في خفايا الناس وخباياها فأخبر بما أعرف عنهم, مما يجعل الناس يلتفون من حولي تعظيماً وإعجاباً.. وأنا أحسب أني قد أحسنت صنعاً وبلغت غاية الغايات!
وهنا أريد أن أخلص إلى القول إنه لابد للسالك إلى الله (جل جلاله) من حكيم يرشده.. وإلا فإن المخاطر تنتظره على قارعة الطريق)[5] .
القصة الثانية :
أردت تناول جميع الأدوية.. مرة واحدة! كتب أحد الأصدقاء رسالة جاء فيها:
في أوان شبيبتي عدت إلى الوعي بعد حالة من الغفلة, فخطر لي أني لو واظبت على تلاوة القرآن وأدمنت على ترديد الأدعية, معرضاً عن ارتكاب المعاصي ملتزماً بأداء الفرائض والواجبات.. لغدوت في عداد أولياء الله.
وكان تنفيذ هذا الذي خطر لي هو دأبي ليلاَ ونهاراَ, بيد أني لما رجعت إلى القرآن الكريم وإلى الأحاديث أتبين فيها سمات أولياء الله و مخايلهم.. لم أجدني قد تحققت بشيء منها.
ووقع في حسباني يوماً أن مخالطتي بالناس وما أتناوله من طعام مما يحول دون أن تأثر عبادتي أثرها المطلوب في تصعيد روحيتي إلى مراقي الكمال, فما كان مني إلا أن اختططت خطة جديدة في هذا السبيل, وهكذا مضيت في أيام الصيف إلى منطقة جبلية -حيث لا أعرف هناك من أحد- واعتكفت التماساً للتعبد وترويض النفس, ولم يكن حظي في هذه التجربة الروحية خيراً من سابقتها, فضقت مما بي ذرعاً.. وانخرطت أبكي بين يدي الله (عز وجل) في ليلة من ليالي عزلتي الجبلية تلك متسائلاً عما يحول بيني وبين الوصول إلى الهدف الذي أردت, ولما خلدت تلك الليلة إلى النوم.. وجدتني في عالم الرؤية أعاني من أمراض جسدية كثيرة, ورأيت أمامي صيدلية مفتوحة فدخلت, وعندها قررت أن أمد يدي وأتناول من أنواع الأدوية, لعلي أشفى من هذه الأمراض, بيد أن طبيباً ماهراً كان هناك بادرني بالقول - وقد أدرك ما عزمت عليه- : لا تفعل! هذا شيء خطير, إن ترد الشفاء حقاً فعليك أن تراجع طبيباً مختصاً, ليشخص أمراضك, ثم يكتب لك وصفة فيها ما يناسبك من الدواء.
في تلك اللحظة خرجت من الحلم, وأفقت من النوم.. فأدركت الوهم الذي كنت قد وقعت فيه, وعلمت أن معالجة الأمراض الجسدية إذا كان لا يصح أن تؤخذ هذا المأخذ.. فما بالك إذن بمعالجة الأمراض الروحية التي هي أكثر دقة وأشد حساسية؟! إنه لابد إذن من أستاذ في الطب الروحي حكيم مرشد شفيق.. يعينني في تشخيص أدوائي الروحية, وفي اختيار الدواء من بين الأدعية والنوافل والمستحبات, وفق منهج صالح دقيق يحدده لي ويشرف عليه, لأظفر بالعلاج المؤمل وأصل إلى الهدف, بأناة وبدون إتلاف للوقت.
وقد هداني هذا إلى الالتجاء إلى أحد الأولياء طالباً منه العون, واستجاب الرجل - جزاه الله خيراً- لما طلبت, فأخذ بيدي كما يفعل الأب الرفيق, فحدد حالتي وحاجتي, ومضى بي يشق لي السبيل تلقاء عالم المعنويات)[6]
وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين وصل اللهم على محمد وآله الطاهرين
[1]الإمام علي, نهج البلاغة.
[2] السيد حسن الأبطحي, سيرٌ إلى الله/ ص ص: 81-82.
[3] القرآن الكريم, سورة البقرة/ الآية:29.
[4] القرآن الكريم, سورة الذاريات/ الآية: 56
[5] حسن الإبطحي سيراٌ إلى الله , ص 88
[6] حسن الإبطحي سيراٌ إلى الله , ص91