اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إنّ من يلاحظ القرآن الكريم والروايات الشريفة الواردة عن أهل البيت عليهم السلام يجد بوضوح آثاراً مهلكةً وخطيرةً للذنوب والمعاصي، في العوالم الثلاثة:عالم الدنيا، وعالم البرزخ، وعالم الآخرة.
وقبل الإشارة إلى بعضها لا بدّ من التذكير بأنّ الذنب بمثابة السمّ القاتل أو دون ذلك، والخطير في هذا المجال هو عدم ارتباط التأثير والهلاك بمسألة العلم والجهل، ولذا فإنّ من يرتكب الذنب يترتّب عليه الأثر الوضعيّ والتكوينيّ، ويؤثّر ذلك على قلبه وجسمه وماله وولده وغير ذلك، حتّى لو كان جاهلاً بأثر الذنب، تماماً كمن يجهل بأثر السمّ، وهذا ما يدعونا للابتعاد عن المعصية والحذر من آثارها.
أ - الآثار الدنيويـّة:
إنّ عالم الدنيا هو عالم الابتلاء والتكليف لعباد الله، الذي يعدّ أحد أهداف خلق الإنسان﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾12، ولا يخلو حال الإنسان غير المعصوم عن الطاعة والمعصية، وقد وعدنا الله وتوعّدنا، بأنّ لكلٍ منهما آثاره الخاصّة في الدنيا، فللطاعة آثارها وبركاتها العظيمة، التي تبعث الأمل في نفوس المؤمنين، وترغّبهم في العمل الصالح والإكثار منه. وفي مقابل ذلك فإنّ للمعصية والذنوب آثارها المهلكة أيضاً في الدنيا، لعلّ المطّلع عليها يحذر منها ويخاف من تبعاتها، فيحجم عنها ولا يقدم عليها.
وقد قسّم علماؤنا الأجلاء آثار الذنوب الدنيويّة إلى:
آثار عامّة تترتّب بحسبها على فعل الذنب، وهذا ما سنتعرّض له في هذا الدرس، وآثار خاصّة لبعض الذنوب ترتبط بإتيانها خاصّة، كآثار الكذب والغيبة والنميمة وعقوق الوالدين وغيرها، نتعرّض لها لاحقاً إن شاء الله تعالى.
الآثار العامـّة:
وقد أحصى علماء الأخلاق أكثر من ستّين أثراً مهلكاً وخطيراً للذنوب في الدنيا، من جملتها
1. غضب الله
وهذا من الآثار المهلكة في الدنيا والآخرة كما سيأتي، والغضب هنا بمعنى عقاب الله وعذابه، كما ورد في الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام عندما سأله عمرو بن عبيد عن قوله تعالى:﴿وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى﴾13"ما ذلك الغضب؟ فقال أبو جعفر عليه السلام هو العقاب".
وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "مجاهرة الله بالمعاصي تعجل النقم".
2. الدخول في ولاية الطاغوت
فإنّ عصيان الله وإطاعة الشيطان توجب دخول العبد العاصي في ولايته وخروجه من ولاية الله، وقد يودي به إلى خروجه من الإيمان إلى الكفر بالله عزَّ وجلَّ.﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾14.
3. قسوة القلب
والمراد بالقلب ذلك الجوهر الذي تتقوّم به إنسانيّة الإنسان، وقد أودعه الله فينا مفطوراً على التوحيد والعبوديّة والطاعة، وطاهراً أبيضاً سليماً رقيقاً شفّافاً ليس فيه أيّ نقصٍ وفسادٍ، لكن بارتكاب المعاصي والذنوب والابتعاد عن الله يقسو شيئاً فشيئاً، حتّى يصبح أشدّ قسوة من الحجارة:﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً...﴾15.
ويتحوّل إلى قلب أسود لا يُفلح بعدها أبداً، ففي الخبر عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "ما من عبدٍ إلا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد، وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتّى يغطّي البياض، فإذا غطّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خيرٍ أبداً، وهو قول الله عزَّ وجلَّ:﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾"16، "وما من شيء أفسد للقلب من الخطيئة"17،و"ما قست القلوب إلّا لكثرة الذنوب" 18كما ورد في الأخبار عن المعصومين عليهم السلام.
4. حرمان الرزق
قد يكون الرزق معنويّاً كالتسديد والحفظ والتأييد والشهادة في سبيل الله. وقد يكون ماديّاً ـ كما هو المتبادر عند عامّة الناس ـ كالمال والطعام وغير ذلك.
يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُون﴾19.
وفي الخبر: "إنّ الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه"20.
وورد أيضاً: "إنّ العبد ليذنب الذنب فيزوي عنه الرزق"21.
والظاهر أنّه حرمان الزيادة في الرزق، لأنّ بعض الرزق مضمونٌ من قبل الله لكلّ مخلوق حيٍّ حتّى الفساق والكفرة والعصاة،﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا﴾22، لا حرمان أصل الرزق لهؤلاء لأنّه يعني قطع أصل الحياة وقبض أرواحهم.
وقد يكون الحرمان في رفع البركة من أرزاقهم وأموالهم وطعامهم كما ورد في رواية الزهراء عليها السلام: "ويرفع الله البركة من رزقه"23.
5. نقصان العمر
إنّ رأسمال الحياة الدنيا عند أهلها هو العمر الطويل والرزق الوفير، ولذا نرى أنّ غايتهم في هذا الزمان هو المحافظة على أبدانهم وصحّتهم ومأكلهم ومشربهم، ظنّاً في إطالة أعمارهم. أليست الأعمار والأرزاق بيد الله عزَّ وجلَّ؟! وقد دلّنا سبحانه على ما يوجب زيادة العمر والرزق ونقصانهما وعدم البركة فيهما، نحو برّ الوالدين وعقوقهما، وصلة الرحم وقطيعتها....
ففي الحديث عن أبي عبد الله عليه السلام: "مَن يموت بالذنوب أكثر ممّن يموت بالآجال"24.
ويخبرنا الله عزَّ وجلَّ في القرآن الكريم عن هلاك الأمم السابقة، الذين ظلموا أنفسهم وعصوا الله، وطغوا في الأرض وقتلوا أنبياء الله،﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾25.
6. زوال النعم وحلول النقم
يقول الله تعالى:﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾26.
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "ما أنعم الله على عبد نعمةً فسلبها إيّاه حتّى يذنب ذنباً يستحقّ بذلك السلب"27.
7. المرض
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "أما إنّه ليس من عرقٍ يضرب ولا نكبةٍ ولا صداعٍ ولا مرضٍ إلّا بذنبٍ، وذلك قول الله عزَّ وجلَّ في كتابه ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾28 قال، ثمّ قال عليه السلام: وما يعفو الله أكثر ممّا يؤاخذ به"29.
8. نسيان العلم
وهو آفّة كبرى تعيد الإنسان إلى الجهل والغفلة، بعد أن كان عالماً ذاكراً، وما ذلك إلا لذنب ارتكبه، فقد روي عن النبيّ الأعظم صلى الله عليه و آله وسلم أنّه قال: "اتقوا الذنوب فإنّها ممحقة للخيرات، إنّ العبد ليذنب الذنب فينسى به العلم الذي كان قد علمه..."30.
9. عدم استجابة الدعاء
الذنب من موانع استجابة الدعاء، فقد ورد في بعض الروايات أنّه لا يُسمع ولا تستجاب الحاجة، فعن الإمام الباقر عليه السلام: "إنّ العبد يسأل الله الحاجة فيكون من شأنه قضاؤها إلى أجل قريب، أو إلى وقت بطيء، فيذنب العبد ذنباً، فيقول الله تبارك وتعالى للملك لا تقضِ حاجته، واحرمه إيّاها؛ فإنّه تعرّض لسخطي واستوجب الحرمان منّي"31.
10. عدم التوفيق للعبادة
قد يُحرم المذنب من ثواب العبادة وبركاتها، سيما تكفير السيّئات، وتضاف سيّئته إلى سجلّ أعماله، فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إنّ الرجل ليذنب الذنب فيحرم صلاة الليل، وإنّ العمل السيّئ أسرع في صاحبه من السكين في اللحم"32.
11. فوات الغرض
وقد يجترئ البعض على الله فيسعى نحو المعصية ويهمّ بها، لكنّه لا يقدر على ذلك، ولا ينال مبتغاه، قيل إنّ رجلاً كتب إلى الإمام الحسين عليه السلام قائلاً له: "عِظني بحرفين، فكتب إليه: من حاول أمراً بمعصية الله كان أفوتَ لما يرجو، وأسرع لمجيء ما يحذر"33.
شبكة المعارف الاسلامية
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين