اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وأهلك أعدائهم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أخلاقية التعامل مع الله سبحانه
التقوى والورع
لا تنال رحمة الله عز وجل إلا بالتقوى: **... ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون** (الأعراف: 156) **... للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار...** (آل عمران: 15). والتقوى هي وقاية النفس مما يغضب الله سبحانه وتعالى، وهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالأخلاق... حيث يقول تعالى: **... فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين** (التوبة: 4)، فالوفاء بالعهد من تقوى الله، والوفاء بالعهد ركن من أركان الأخلاق الإسلامية. وكذلك العدل والعفو والاستقامة مع الأعداء هي من التقوى، قال تعالى: **... إعدلوا هو أقرب للتقوى...** (المائدة: 8). **... وأن تعفوا أقرب للتقوى...** (البقرة: 237) **... فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين** (التوبة: 7).
وقد أكد القرآن الكريم بمفاهيمه الأخلاقية الرائعة أن الشيطان لا يستطيع أن ينفذ إلى قلوب الذين يمتلكون تقوى الله حيث النفوس البصيرة والقلوب الواعية: {إن الذين اتقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون** (الأعراف: 201) فالتقوى هنا هي التي ترجع الإنسان إلى موقعه الطبيعي إذا فاجأته عاصفة هو جاء في مسيرة الحياة فيتذكر الله ويتذكر نفسه، فإذا هو إنسان يرى ما لا يراه الآخرون...
ويتصاعد السلّم القرآني في فهم التقوى، فيلقي القرآن ضوءاً آخر على هذه الميزة الإيمانية الفريدة، فيقول: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون** (النحل: 128)، وفي الآية لطف رباني، حيث يذكر الله سبحانه وتعالى، انه سبحانه بعظمته وجلاله مع هؤلاء المتقين، وهذه زيادة ورفعة لا توصف في تكريم هذه المجموعة الطيبة من البشر... إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون..
وقد تناول القرآن الكريم وصف المتقين وميزاتهم فأجملها بالإيمان بالله سبحانه وتعالى، وبرسله، والإنفاق في سبيل الله بما يحبون، وإقامة الصلاة بمعنى إقامة الدين، وعدم تجاوز الحدود الشرعية، وإيتاء الزكاة، والإيفاء بالعهد، والصبر على مكاره الحياة، فقال تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قِبَل المشرق والمغرب، ولكن البرّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب[1] والنبيين، وآتى المال على حبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب[2] واقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء[3] والضراء[4] وحين البأس[5]، أولئك هم المتقون** (البقرة: 177)، فالصبر على المرض، والصبر على الفقر والفاقة هو باب من أبواب التقوى.
وقد أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالتقوى ومخافة الله، فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته...** (آل عمران: 102)، **... وتزودوا فإن خير الزاد التقوى** (البقرة: 197)، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين** (التوبة: 119)، وتوجيه خطاب التقوى إلى المؤمنين يعني أن درجة المتقين أعلى وأسمى من درجة "الذين آمنوا"، وما يؤكد ذلك قوله تعالى: **... إن أكرمكم عند الله أتقاكم...** (الحجرات: 13)، فتكريم الإنسان عند الخالق لا يتم إلا بوصوله إلى درجة رفيعة من السمو الأخلاقي ومخافة الله وخشيته في روعه ووقاية نفسه مما يغضب الله سبحانه وتعالى، ليصل إلى درجة التقوى، ثم التكريم عنده جلّ وعلا.
ومما يراه صاحب (الميزان) المرحوم السيد الطباطبائي ان المتقين هم المؤمنون، وليست التقوى صفة خاصة لطبقة من طبقاتهم، بل هي صفة جامعة لجميع مراتب الإيمان، بدليل قوله تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدىً من ربهم وأولئك هم المفلحون** (البقرة: 2 ـ 5) فالذي أخذه الله تعالى من الأوصاف المعرفة للتقوى، خمس صفات، وهي: الإيمان بالغيب، إقامة الصلاة، الإنفاق مما رزق الله سبحانه، الإيمان بما أنزله على أنبيائه، والإيقان بالآخرة...
ومهما يكن من أمر، فإن المتقين هم الذين يجمعون جميع مراتب الإيمان، أي هم قمة المؤمنين، ولا خلاف في هذا، ولذلك وصفهم الله تعالى بأنهم على هدى من ربهم.. وتلبسهم بلباس الهداية إنما هو نتيجة طبيعية لتلبسهم بالصفات الكريمة المذكورة في الآية السابقة..
وكما يعودنا الإسلام دائماً بالاعتدال وعدم تكليف النفس ما لا تطيق، كذلك القرآن الكريم عندما يتحدث عن التقوى، يقول: {فاتقوا الله ما استطعتم..** (التغابن: 16)، ويزرع القرآن الكريم في نفس المتقي آمالاً واسعة لا تحدها أية حدود، فيقول: **... ومن يتق الله يجعل له مخرجاً * ويرزقه من حيث لا يحتسب...** (الطلاق: 2 ـ 3)، **... ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً** (الطلاق: 4) {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا[6] ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم** (الأنفال: 29) {الذين آمنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة** (يونس: 64). وهكذا تستمر الآيات القرآنية بهذا الإنسياب الرائع المبارك لتوصل المتقين إلى جنات الخلد، فتقول: **... للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار...** (آل عمران: 15)، {لكن الذين اتقوا ربَّهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلاً من عند الله، وما عند الله خير للأبرار** (آل عمران: 198).
إن التقوى الحقيقية هي أن يكون قلب المرء مستنيراً بخشية الله والشعور بعبوديته، وان يكون وعيه للقيام بين يدي ربه والمسؤولية أمامه يوم القيامة شديداً قوياً، وأن يدرك إدراكاً تاماً قوياً ان هذه الحياة الدنيا ليست إلا مضماراً لامتحانه، حيث قد بعثه الله تعالى ومتعه إلى حين من الزمن [7].
وقد قسَّم الإمام الصادق (ع) التقوى إلى ثلاثة أوجه: (الأول): تقوى من خوف النار والعقاب بترك الجرائم وهو ما يصطلح عليه بتقوى العام، (الثاني): التقوى من الله بترك الشهوات إضافة إلى ترك الحرام، وهو تقوى الخاص، (الثالث): التقوى في الله بترك الحلال إضافة إلى ترك الشبهات. ومثل التقوى كماء يجري في النهر، ومثل هذه الطبقات الثلاث في معنى التقوى كأشجار مغروسة على حافة ذلك النهر من كل لون وجنس، وكل شجرة منها تمتص الماء من ذلك النهر على قدر جوهره وطعمه ولطافته وكثافته ثم منافع الخلق من تلك الأشجار والثمار على قدرها وقيمتها. قال الله تعالى: **... صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل...** (الرعد: 4)، فالتقوى للطاعات كالماء للأشجار، ومثل طبائع الأشجار والأثمار في لونها وطعمها مثل مقادير الإيمان، فمن كان أعلى درجة في الإيمان وأصفى جوهرة بالروح كان أتقى، ومن كان أتقى كانت عبادته أخلص وأطهر، ومن كان كذلك كان من الله أقرب، وكل عبادة مؤسسة على غير التقوى فهي هباء منثور. قال الله تعالى: {أفمن أسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هارٍ فانهار به في نار جهنم...** (التوبة: 109)، ويختم الإمام الصادق (ع) حديثه عن التقوى بالقول: **... تفسير التقوى ترك ما ليس بأخذه بأس حذراً مما به البأس، وهو في الحقيقة طاعة بلا عصيان، وذكر بلا نسيان، وعلم بلا جهل، مقبول غير مردود**.[8]
د. زهير الأعرجي/ أميركا
شبكة اهل البيت عليهم السلام