بسم الله الرحمن الرحيم
(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ، قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ،قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ )([1]).
دعوة الأهواء:
انهم كانوا يعلمون ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يتخلى عن رسالته والدين الذي جاء به من الله سبحانه لكنهم دعوه الى اعتناق دينهم فماذا كان الجواب؟
قل يا رسول الله اني منهيّ عن هذه العبادة الضالة.
(نُهِيتُ):
هو خلاف الأمر ونهيته عن كذا أي كفّ. وسميت العقول بالنُهى لأنها تنهى عن القبيح. فهذا المنع الشديد من خلال (نُهِيتُ) كان من الله سبحانه.
(الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ):
الاسم الموصول (الَّذِينَ) المستخدم للجمع المذكر العاقل هو الذي وقع عليه النهي كالطواغيت والظالمين وأضرابهما، وهذا أعم من عبادة الأصنام والاوثان، وكل صور العبادة الضالة في هذا ا لطريق هي عبادة من دون الله.
وقد انطلقت تلك العبادة الضالة من هوى النفس والتقليد الأعمى واتباع الأهواء والشهوات التي لا تهب استقراراً بل هي مبعث القلق لأنها بعيدة عن الهداية الحقيقية ولا تنجم عن أية عقلانية أو دراية في اختيار العقيدة. ونتيجتها الضلال أي:
ان اتبعت اهواءكم فقد ظللت. وحينها لا أكون في زمرة المهتدين الذين يسلكون طريق الهدى كالانبياء (عليهم السلام).
الأسلوب القرآني (قل):
بدأت هذه الآيات الثلاث بكلمة (قُلْ) وهي أمر من الله سبحانه مباشر الى رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله) لبيان الحقيقة لهؤلاء وهو يفيد الأصرار بعد الوضوح فقد تقدمت هذه اللفظة المضامين التالية بما تحمله من وضوح وإصرار:
1- النهي عن هذه العبادة الضالة.
2- النهي عن اتباع الاهواء التي اوصلتهم الى هذه العبادة.
3- ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) لديه بيّنة وقدرة على الفصل بين معرفة الحق من الباطل.
4- عدم مالكية الرسول (صلى الله عليه وآله) الحكم التكويني في انزال العذاب عليهم فالحكم لله وحده.
البيّنة:
هي من الله سبحانه وهذا مصدر قوتها ورجاحتها في الاحتجاج عليهم
(قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي)
وتصدق على القرآن وما يفصل بين الحق والباطل وتصدق كذلك على البصيرة بالشريعة
(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ([2]).
ورغم ذلك (كَذَّبْتُم) بهذه البينة والدليل.
حكم تكويني:
قل يا رسول الله ليس انزال العذاب الذي استعجلتموه على أنفسكم بأرادتي واختياري فقد يكونون مستهزئين بطلبهم هذا وقد تدفعهم رغبة في مشاهدة المعجزة وليس لمعرفة الحقيقة والأيمان بها قوله تعالى:
(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ)([3])،
كما انهم خاطبوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما يحكيه القرآن الكريم:
(أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا)([4])
وهذا الأسلوب دأب عليه أقوام آخرون كقوم نوح وهود وصالح (عليهم السلام) حين قالوا لأنبيائهم:
( فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)([5])،
أو (ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)([6])
فقد اختص الله سبحانه لنفسه العلم بانزال العذاب عليهم
(إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ)،
فهو يبين الحق وهو أفضل الحاكمين وأفضل من يفصل بين عباده.
دعاوى باطلة:
1- هناك من تمسك بقوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ) وهم الخوارج في حرب صفين حين رفضوا التحكيم ورفعوا شعاراً بهذه الآية المباركة التي لا علاقة لها بدعواهم كما بينا ذلك قبل قليل.
2- من جهة أخرى هناك من تمسك بقوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ) دعماً للجبرية بأن أفعال العبادة مخلوقة لله سبحانه وهي لا تنص على دعواهم وإنما هو استدلال فاسد.
ثم تأتي الآية الثالثة لتؤكد هذا الاتجاه بأن كلا العلم والارادة بانزال العذاب مختص بالله سبحانه:
( قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)،
فلو كان الأمر كذلك بيدي وأنتم تستحقون العذاب لأنزل عليكم وقضي الأمر بيني وبينكم لكن الله سبحانه أعلم بالظالمين فهو من يقدم العذاب أو يؤخره حسب ما تقتضيه ارادته وينزل عذابه على الظالمين في الوقت المناسب.
_______________
([1]) سورة الانعام: 56-58.
([2] ) سورة يوسف: 108.
([3]) سورة الحج: 47.
([4]) سورة الاسراء: 92.
([5]) سورة الاعراف: 70.
([6]) سورة الاعراف: 77,
الدكتور علي الأوسي