بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وصلنا الى هنا
((يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ))، وكما كان الصراط المستقيم قبلا بيت المقدس حال التوجه كذلك صار الصراط المستقيم فِعلاً الكعبة.
لنكمل معاً
((وَكَذَلِكَ))، أي كما أن (لله المشرق والمغرب) وأنه لا مناقشة في ذلك ((جَعَلْنَاكُمْ)) أيها المسلمون في التأويل، إن المراد بالخطاب الأئمة (عليهم السلام)، ((أُمَّةً وَسَطًا)) متوسطاً، والإطلاق وإن كان يفيد في كل شيء في العقيدة - فلا جمود ولا إلحاد وفي المكان فهم متوسطون بين شرق الأرض وغربها وفي التشريع فليس ناقصاً ولا مغالياً وهكذا، إلا أن ظاهر قوله سبحانه بعد ذلك ((لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)) يفيد أن المراد بالتوسط الوسيطة بين الرسول وبين سائر الناس، فالأمة تأخذ من الرسول ويشهد الرسول عليهم بأنهم أخذوا منه - حتى لا يقولوا ما عرفنا - وسائر الناس يأخذون من الأمة وتشهد الأمة عليهم بأنهم أخذوا منها - حتى لا يقول الناس لم نعرف، وهذا هو الظاهر من "لام" العلة في قوله "لتكونوا ... ويكون"، ولعل ارتباط هذه الآية بما سبقها من حكم القبلة وما لحقها بيان أن المسلمين لهم مكان القيادة لأنهم الآخذون عن الرسول المبلغون للناس، فالذي ينبغي: أن تكون لهم سمة خاصة في شرائعهم حتى لا يرمون بالذيلية والاتباع للآخرين، ثم يرجع السياق إلى حكم القبلة فقال سبحانه: ((وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا)) وهي بيت المقدس - الذي كان يتوجه النبي نحوه في الصلاة طيلة كونه في مكة المكرمة ومدة الهجرة - ((إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ))، معنى "لنعلم" أن يتحقق علمنا في الخارج بأن يظهر المتبع من المخالف، فإنه قد يقال: "لنعلم" ويراد به حصول العلم للمتكلم، وقد يقال: "لنعلم" والمراد به وقوع المعلوم في الخارج، وفي بعض التفاسير أن قوماً ارتدوا على أدبارهم لما حولت القبلة، فظهر أنهم لم يكونوا يتبعون الرسول حقيقة وإنما حسب الأهواء، والعقب : مؤخر القدم، والمعنى التشبيه لمن يرتد كافراً بمن يرجع القهقري، ((وَإِن كَانَتْ)) مفارقة القبلة الأولى إلى قبلة أخرى ((لَكَبِيرَةً))، إذ هو خرق لاعتياد قديم متركز، ((إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ)) إياهم بأن قوّى قلوبهم بالإيمان، ((وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ)) أيها المسلمون الراسخون الذين اتبعتم النبي، وهذا تقدير لهم في ثباتهم، ووعد لهم بالجزاء على إيمانهم الكامل، ويحتمل أن يكون جواباً عن سؤال وقع عن بعضهم، وهو كيف تكون حال صلواتهم السابقة التي صلوها إلى بيت المقدس، وإن كان الظاهر من كلمة "إيمان" المعنى الأول، ((إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ))، فلا يضيع أتعابهم وأعمالهم.
وبعد ما بين الحكم وأن القبلة تحولت بيّن الله سبحانه قصة التحويل، فإنها كالعلة للحكم المتقدم، والعلة دائما تأتي متأخرة في الكلام وإن كانت سابقة في التحقيق، كما يقال أنه إنسان طيب لأن تربية <تربيته؟؟> حسنة، ((قَدْ نَرَى))، "قد" هنا للتحقيق نحو "قد يعمل الله" وإن كان الغالب في "قد" الداخلة على المضارع أن تكون بمعنى التقليل، ولعل سر دخولها إشراب الفعل معنى التقليل، حيث لا يريد المتكلم إظهار العمل بالبت مثله: (وإنا أو إياكم لعلى هدى)، ((تَقَلُّبَ وَجْهِكَ)) يا رسول الله ((فِي السَّمَاء))، أي في ناحية السماء، فإن الرسول كان يقلب وجهه في أطراف السماء، فينتظر الوحي حول القبلة، فإن اليهود عيروه (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلين له إنك تابع لقبلتنا، فلما كان في بعض الليل خرج (صلى الله عليه وآله وسلم) يقلب وجهه في آفاق السماء، فلما أصبح صلى الغداة، فلما صلى من الظهر ركعتين جاء جبرائيل (عليه السلام) بهذه الآية، ثم أخذ بيده فحول وجهه إلى الكعبة، وحول من خلفه وجوههم، حتى قام الرجال مقام النساء، والنساء مقام الرجال. ((فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا))، إذ الرسول كان يحب الكعبة التي هي بناء جده إبراهيم (عليه السلام)، وعندها موطنه، ((فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ))، "الشطر": الجزء، أي حول وجهك نحو جزء من المسجد الحرام، و"المسجد" لكونه محيطا بالكعبة يكون المتوجه إليه متوجها إليها إذا كان من بعيد، ((وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ)) أيها المسلمون ((فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ))، وذكر "الوجه" في المقامين، لأنه الشيء الذي يتوجه به في جسد الإنسان، ((وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ)) من اليهود والنصارى الذي يستشكلون عليكم قائلين: "إن كانت القبلة السابقة حقا فهذه باطلة، وإن كانت هذه حقاً فتوجهكم في السابق إلى بيت المقدس باطل" ((لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ))، أي أن تحويل القبلة، أو هذه القبلة حق من قبل الله، فإن الله سبحانه يعبده عباده كيف يشاء، فمن الجائز أن يعبد الأمة بتشريع إلى مدة ثم يعبدهم بتشريع آخر، ((وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ))، أي يعمل أهل الكتاب من الإرجاف وبث الأباطيل حول تحويل القبلة وسائر الأمور المرتبطة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
((وَلَئِنْ أَتَيْتَ)) يا رسول الله ((الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ)) من اليهود والنصارى ((بِكُلِّ آيَةٍ)) من الآيات الدالة على أن قبلتك حق ((مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ))، لأنهم معاندون، والمعاند لا ينفع معه الدليل، ((وَمَا أَنتَ)) يا رسول الله ((بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ)) بعد ما تعلم أن قبلتهم منسوخة، كقوله تعالى (لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد)، ((وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ))، اليهود لا يتبعون قبلة النصارى، والنصارى لا يتبعون قبلة اليهود، ((وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ)) يا رسول الله ((أَهْوَاءهُم)) في باب القبلة وسائر التشريعات ((مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ)) بأن طريقتهم باطلة ((إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ))، وهذه الجملة - وإن كانت موجهة إلى الرسول لكن - المقصود منها العموم، ولا تنافي العصمة، فإن الاشتراط يلائم المحال، كقوله تعالى (إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين)، وقد تقرر في المنطق أن صدق الشرطية إنما هو بوجود العلية ونحوها لا بصدق الطرفين.
نكمل معكم ان شاء الله
قريباً
تحياتي
مسك النبي الهادي