وَعَجِّلْ فَرَجَهُمْ وَاهْلِكْ عَدُوَّهُمْ مِنَ الجِنِّ وَالاِنْسِ مِنَ ألاَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ
الْسَّلامِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الْلَّهِ وَبَرَكَاتَةَ
بقلم: السيد يعرب الحلو
(إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
إنّ من مميزات وخصائص القصة القرآنية واقعيتها، وأن هذه الواقعية تستند على بعدين أساسيين، وهما:
البعد الأول: الواقع الخارجي
إنّ جميع ما في القصة من العناصر كالأشخاص والأحداث والحوار وغيرها، مأخوذ من الواقع الخارجي من دون أن يدخله الخيال أو الوهم، ويمكن إبراز هذا اللون من الاستناد من خلال بيان كيفَ أن القصة القرآنية اعتمدت الواقعية في الحدث والأشخاص، وبالبيان الآتي:
1 ـ واقعية الحدث
هذا ما يظهر لنا واضحاً في قصة موسى(عليه السلام)، حيث جاء فيها مجموعة من الأحداث الواقعية، من قبيل ذكر ابنتي شعيب، وقضية الماء والمرعى، وسقيه لهما، ثم مقابلته لأبيهما، وزواجه بإحداهما، إلى غيرها من أحداث هذه القصة، وهذا ما يصوره المولى تبارك وتعالى من خلال حكايتها عن طريق الآيات الكريمة، حيث قال تعالى:
(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ)(1).
وهنا نجد أنّ المولى تبارك وتعالى قد صوّر هذه الأحداث في واقعية طبيعية دون تكلُّف، أو تزييف، أو نقص أو إضافة، وبإيجاز رائع، وبيان واضح، وغير أنّه جاء بها في قالب قصصي موجّه؛ ليحقق أهدافاً دينية من عرضها بهذه الصورة، فهي تحمل معاني كثيرة من الأمانة والقوة ودوام الصلة بالله تعالى، والتضرُّع إليه، والحياء، والعفة، والطهر والشرف، وغيرها من المعاني التي ضمّنتها مجموعة هذه الأحداث الواقعية، باعتبارها تمثّل مجريات عادية من أحداث الحياة، فلم يخالط هذه الأحداث خيال، أو وهم، بحيث يخرجان القصة عن حقيقتها وواقعيتها.
2 ـ واقعية الأشخاص
إنّ من أبرز الأمثلة التي تجلت بها هذه الواقعية، وهو ما يتعلق بعرض شخصية الأنبياء(عليهم السلام) ودورهم في القصة القرآنية؛ إذ إنّه من خلال عرض شخصية النبي(عليه السلام)ـ الذي يمثّل أداة التأثير البارزة في القصة باعتبار أنّ الأنبياء هم النماذج المثالية بما يتمتعون به من العصمة ـ يكشف لنا عن دقة تصوير الدور الذي يقوم به هذا العنصر الأساسي من عناصر القصة، وذلك من خلال أمرين.
الأمر الأول: الجانب النبوي المتمثِّل في عصمة الله له وتأييده بالمعجزات.
الأمر الثاني: الجانب البشري المتمثِّل في مجال التميُّز والرفعة في تطبيق هذا الدين في واقع حياة النبي والمجال الاعتيادي فيما يعتري الإنسان من عواطف وانفعالات.
ومن النماذج الجامعة لكلا الجانبين ما ورد في قوله تعالى في بيان موقف تكليف موسى(عليه السلام) بدعوة فرعون إلى الهدى، وتخليص بني إسرائيل من ظلمه، قال عزّ وجلّ:
(وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ * قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ * فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ)(2).
فقد ذهبت الدكتورة منى إلى أنّ هذه الآيات بيان إلى ما اعترى موسى(عليه السلام) من نوازع البشر المتمثلة في الخوف من ظلم فرعون وجبروته وعتوِّه وتكذيبه، وقد يقتله بسبب قتله للقبطي، ومن ثم فهو يظهر ما به من ضعف وقصور لا ليتنصّل أو يعتذر من التكليف، ولكن ليطلب العون والمساعدة من الله تعالى في هذا التكليف العسير؛ لأنّه قد يتبع هذا الخوف ضيق في الصدر وحبسة في اللسان وقد تحجزه من حسن تبليغ الدعوة وبيانها فسارع إلى طلب العون من الله تعالى بوقوف أخيه هارون معه، وقد طمأنه الله تبارك وتعالى إلى أنهما في حفظه من خطر فرعون وقومه الظالمين، والله تعالى يسمعهم ويراهم وقد وجههُ الله بالقول الذي يواجه به فرعون(3).
أقول: وأنّ مثل هذا الكلام لا يصح بإطلاقه على موسى(عليه السلام)؛ لأنّه نبي معصوم بعصمة الله له من كل شيء، والمعصوم لا يعتريه الخوف والاضطراب، فإنّ كان هناك خوف يعتريه فهو خوفه على فوات غرضه بقتله(عليه السلام)؛ إذ إنّ غرضه المطلوب منه هو هداية الناس وإنقاذهم من الضلال والانحراف؛ وذلك بدعوته إياهم إلى الإيمان بالله تعالى بنبذ الشرك وعبادة الطاغوت.
كما أنّها أضافت قائلة: (إنّ تفاوت شخصيات الأنبياء(عليهم السلام)في المواقف، كان له اثره البارز في تقرير الواقعية، التي ظهرت خاصّة في أساليب الدعوة، وطريقة التكيّف مع الموقف)(4) وقد ردّ الله تعالى مقولتهم بقوله:
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا* وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا)(5).
فقول هؤلاء الكافرين (أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)، أي: ما هذا إلا أكاذيب الأولين التي سطروها في الكتب جمع أسطورة كأحدوثة ، والأساطير الأباطيل والترهات والكذب(6).
وقوله تعالى في آية أخرى: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)(7) ، بأن سبب هذا التكذيب ووصف القرآن الكريم بهذا الوصف الباطل من هؤلاء المبطلين، هو كثرة الذنوب والمعاصي التي اكتسبوها وفعلوها، فأصبحت غطاءً وريناً على قلوبهم، فلم يستطيعوا أن يروا القرآن على حقيقته وواقعيته، ثم بعد ذلك قال تعالى:
(كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(8) فالقران الكريم كله حق صادر عن حق، لا يمكن أن يشوبه ويدخله الباطل، كما وصفه المولى تبارك وتعالى بعظيم وصفه (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)(9) وأما بخصوص القصص القرآني قال سبحانه وتعالى: (إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(10).
وعليه فلا ريب في اتصاف هذه القصص بكونها حق وحقيقة، قد وقعت أحداثها للأمم الماضية بما فيهم الأنبياء والرسل مع أقوامهم.
البعد الثاني: ربط الماضي بالحاضر والمستقبل
إن عناية القرآن الكريم واهتمامه بالأحداث التاريخية عبر التصوير القصصي، هو أكثر من مجرد عرض لأخبار قد مضت، ولحياة ماضين قد سلفت، أو مجرد عرض لأجل التسلية والمتعة ـ كما نجده عند بعض المؤرخين، أو القصاصين ـ بل هو عرض لأحداث ووقائع وصور لها علاقة بواقع الحياة الإنسانية ومتطلباتها، في مقابل أن تكون القصة إثارةً وتعبيراً عن الصور الخيالية أو عن الأماني والرغبات التي يطمع إليها الإنسان أو يتمناها في حياته الدنيوية؛ وذلك لأنّ القرآن الكريم يريد من ذكر القصة وما فيها من الأشخاص والأحداث وغيرها من العناصر الأخرى، أن ينقل لنا تاريخ تلك الأمم الماضية وقضاياهم السالفة بحسب ما تقتضيه من واقعية وصدق، كل ذلك لغرض اعتبار الإنسان به في حياته الحاضرة بما يوافق حركته ومواقفه وتطلعاته نحو المستقبل بما يحقق له الكمالات الإلهية(11).
وقد امتازت القصة القرآنية بتسليط الضوء على الحدث والتأكيد عليه بما له من الأثر في تثبيت سِنَّة تاريخية، أو تبديلها وتغييرها، بعدما اعتادها جماعة من الناس، وذلك بواسطة أوامر ونواهي الدين الإلهي الذي حمله ونشره جميع الأنبياء والرسل(عليهم السلام)، هذا مع وجود أثر القضاء الإلهي وجريانه على كل أجزاء وعناصر القصة القرآنية؛ لارتباط هذه الأجزاء والعناصر جميعها بالإرادة والحكمة الإلهية.
فهذه الخصوصية في القصة القرآنية تدل على واقعية كل ما فيها من أشخاص والأحداث، وسائر العناصر الأخرى، من قبيل ما جاء في قصّة ابني آدم(عليه السلام)، التي حكاها لنا القرآن الكريم، قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ * مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ)(12).
وبهذين البعدين امتازت القصة القرآنية على سائر القصص الأخرى؛ ولذلك لعدم توفهما معاً في تلك القصص، بينما لا تجد قصة من قصص القرآنية فاقدة لواحد من هذين البعدين الأساسيين.