رُوي عن رسول الله صلّى الله عليه و آله أنّه قال:
«إنّما الأعمال بالنيّات، ولكلّ امرئٍ ما نوى، فمَن غزا ابتغاءَ ما عند الله فقد وقع أجرُه على الله، ومن غزا يريدُ عرَض الدنيا أونوى عقالاً لم يكن له إلّا ما نوى».
وفي وصيّته صلّى الله عليه و آله لأبيّ ذرّ: «وَلْيَكن لك في كلّ شيء نيّة، حتّى في النوم والأكل».
فالنيّة بمعنى: قصد التقرّب من الله سبحانه، وهي روح العمل الذي بها يحيا ومن دونها يموت، ولا أثر للمَيت. وبها تصحّ العبادة، ومن دونها تبطل. وحيث إنّ للنيّة درجات؛ فلِلصّحّة مراتب، وإن كانت مشتركة في أصل الإمتثال، وسقوط الإعادة أوالقضاء، ولكن لكلٍّ من تلك المراتب ثوابٌ يختصّ بها، وقُربٌ يحصل منها، ولا يحصلُ ذلك الثواب أو القرب من دونها.
حقيقةُ النيّة بمعنى قصد القُربة هي روحُ العمل وقلبُه، وهي أفضلُ من العمل؛ لأنّ حياتَه بها،کما يُستفاد ممّا رواه الكلينيّ رحمه الله بإسناده، عن سفيان بن عيينة،
عن أبي عبد الله عليه السّلام في قول الله عزّ وجلّ﴿..لِيَبلُوَكُم أَيُّكُم أَحسَنُ عَمَلًا..﴾ size هود:7؛الملك:2،
قال: «ليس يعني أكثرَكم عملاً، ولكنْ أصوبَكم عملاً، وإنّما الإصابة خشيةُ الله عزّ وجلّ، والنيّة الصادقة والحَسنة»،
ثمّ قال عليه السلام: «الإبقاءُ على العمل حتّى يخلص أشدّ من العمل، والعمل الخالص [هو] الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحدٌ إلّا الله عزّ وجلّ، والنيّة أفضل، ألا وإنّ النيّة هي العمل»،
ثمّ تلا قوله تعالى:﴿..كُلٌّ يَعمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ..﴾ الإسراء:84، يعني: على نيّته.
خلوصُ النيّة سرٌّ ملكوتيّ
ومن هنا يظهر الجمعُ بين الأصل الحاكم بأنّ:«أفضل الأعمال أحمزُها» [أي أمتنُها وأقواها]
، وبين الأصل الحاكم بأنّ: «نيّة المؤمن خيرٌ من عمله»؛
لأنّ النيّة إذا كانت روحَ العمل ولبَّه ومغزاه كانت أفضلَ منه، کما أنّها لا بدّ وأن تكون خالصة، إذ الرّياء المتمشّي في العمل لا يتطرّق إليه إلّا من طريق النيّة فحسب، وتحصيلُ الإخلاص في النيّة أحمزُ وأصعب، لذا تكون أفضل من العمل.
وأمّا سرّ كون نيّة الكافر شرّاً من عمله فلِأنّ النيّة هي الأصل کما مرّ، والأصلُ الذي به يتقوّم الفرعُ وعليه يتّكئ الغصنُ وإليه يرجع ما عداه، أهمّ، سواءً في طرف الخير أم الشرّ.
والنيّة لمّا كانت أمراً قلبيّاً لا يطّلع الناس عليها، لا يتطرّق إليها الرّياء والسُّمعة ونحو ذلك؛ لخروجها عن مرأى الناس ومسمعِهم، والعمل لكونه مرئيّاً أو مسموعاً قابلٌ لأن يتسرّب إليه الرّياء،
ولذا قد علّل في (عِلل الشرائع) حسبما رواه زيد الشحّام، عن أبي عبد الله عليه السلام كوْن «نيّة المؤمنِ خيرٌ من عمله» بذلك،
ولكنّ التأمّل في ما تقدّم يوضِح المراد، إذ الرّياء لا يسري إلى العمل إلّا من طريق النيّة، وهي -النيّة- لمّا كانت مستورةً عن أَعين الناس وأسماعِهم تنزّل بلباسِ العمل وتكتسيه، حتّى تصير مرئيّةً أو مسموعة.
ولمّا کان العقل العمليّ -بما له من الشؤون والآثار: كالإرادة والإخلاص ونحو ذلك- نورٌ يُعبَد به الرّحمن، وتُكتَسب به الجنان، فإذا کان ذلك النّور مضيئاً بلا انطفاء ولا انخساف حصل الإيمانُ والإخلاص، وإذا کان منخسفاً بطَوع الهوى حصل الكفرُ أو الرّياء،
کما يُستفاد ممّا رواه الكليني رحمه الله، عن أبي عبد الله عليه السّلام: «ليس بين الإيمان والكفر إلّا قلّةُ العقل،
قيل: وكيف ذاك يا ابنَ رسول الله؟
قال عليه السّلام: إنّ العبدَ يرفعُ رغبتَه إلى مخلوق، فلو أخلصَ نيّتَه لله، لآتاه الله الذي يريدُ في أسرع من ذلك».
فالإخلاص الذي هو الأساس في النيّة سرٌّ ملكوتيّ لا يناله إلّا مَن أحبّه الله، ولا يحبُّ الله أحداً إلّا مَن تقرّب إليه بالنوافل، وباتّباع آثار حبيبِه رسول الله صلّى الله عليه وآله، المتقرّبِ إليه تعالى بالنّوافل كلِّها، والفرائض طُرِّها.
فلِلنيّة سرٌّ إلهيّ لا يُنال إلّا بطيِّ مراحل تكون النيّةُ في بعضها حالاً، وفي بعضِها مَلَكَة، إلى أن تنتهي إلى مرحلة الإخلاص الذي هو سرٌّ إلهيّ، وکما أنّ المحبّ لله تعالى إنّما يصير محبوباً إذا اتّبع حبيبَه، فكذلك المخلِص-بالكسر- إنّما يصير مخلَصاً -بالفتح- إذا اتّبع مَن استخلَصَه اللهُ لنفسِه فصار مخلَصاً -بالفتح- محضاً، وللمخلَص-بالفتح- أوصافُ وأحكامُ ودرجات،
لعلّأعلاها ما هوالمستفاد من قوله تعالى:
﴿سُبحانَ الله عَمّا يَصِفُونَ * إلّا عِبادَ الله المُخلَصِينَ﴾ الصّافات: 159-160،
حيث دلّ على أنّه ليس لأحدٍ أن يصِفَ الله سبحانه إلّا العباد المخلَصين، وأنّهم يعرفونه تعالى بما هو اللازم اللّائق، وإنْ لم يكتنهوه، وكفى بذلك ذخراً وشرفاً.
وليُعلَم: أنّ الدّارج بين أبناء الظّاهر من النيّة ما هو الإخطار بالبال، أي: الذي ليس له إلّا وجودٌ ذهنيّ، وهو کما قيل: نيّةٌ بالحَمل الأوّليّ، وغفلةٌ وذهول بالحمل الشائع الصناعيّ. وأمّا نفس العمل الخارجيّ فصادر عادةً لا عبادة، حيث إنّه لا أثر للوجود الذهنيّ، ولا بعثَ له، وإلّا لما تخلّله الشكّ والسّهو، والزّيادة والنقيصة، وما إلى ذلك ممّا هو المُبتلى به للنّاس،
بل المهمّ في النيّة هو: انبعاثُ الرّوح من العادة إلى العبادة بحيث لا يقرأ ولا يركع ولا يسجد في الصّلاة، وهكذا لا يغسل ولا يمسح في الوضوء -وفي غيرهما- إلّا ببَعث ذلك الأمر القلبيّ،
وهذا إنّما يتمشّى من قلبٍ ليس فيه سوى الله تعالى، المعبّر عليه في لسان النصوص«بالقلب السّليم»
کما روى القطب الراونديّ في (لبّ اللُباب) عن النبيّ صلّى الله عليه وآله أنّه سُئل، ما القلب السّليم؟
فقال: «دينٌ بلا شكٍّ وهوى، وعملٌ بلا سُمعةٍ ورِياء».
كذلك روى الكليني عن الصّادق عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ: ﴿إِلا مَن أَتَى الله بِقَلبٍ سَلِيمٍ﴾ الشعراء:89: «القلبُ السّليم: الذي يلقى ربَّه وليس فيه أحدٌ سواه ".." وكلُّ قلبٍ فيه شركٌ أو شكٌّ فهو ساقط، وإنّما أراد بالزُّهد في الدّنيا لتفرغَ قلوبُهم للآخرة».
وإذا کان القلبُ وعاءً لعدّة من الأهداف والأغراض الّتي يجمعها حبُّ الدنيا فكيف يكون العمل الصادر عنه لله وحده؟ وحيث إنّ الإخلاصَ صَعبُ الوصول فقد أُمِر بالزّهد ونحوه لا لنفسه، بل لحصول ذلك الهدف السّامي. والإخلاص بالمعني الذي هو سرٌّ من أسرار الله ليس أمراً ذهنيّاً حصوليّاً، بل هو أمرٌ عينيٌّ حضوريّ، فعليه يکون مقاماً معلوماً لدى الله سبحانه لا يتخطّاه إلّا مَن ارتدى برداء المحبّة، أي: کان محبوباً لله بعد أن کان محبّاً له تعالى.
ثمّ إنّ بين عبادة العبيد وعبادة الطُّمعاء (التجّار) وبين عبادة المحبّين الأحرار فرقاً، فضلاً عن عبادة المحبوبين، سيّما إذا بلغوا -أي: المحبوبون- مرتبة المخلِصين -بالكسر- الّذين إذا جدّوا واجتهدوا وهاجروا من غير الله إليه تعالى يستخلصُهم الله لنفسه، فيصيرون مخلَصين -بالفتح-، وهنالك تتبيّن روحُ النيّة وسرُّها الّتي هي روح العمل وسرُّه، فالعمل حيٌّ بالنيّة، وهي تحيا بسرّها الذي هو الإخلاص، الذي هو سرٌّ من أسراره تعالى، المودَعُ في قلبِ مَن أحبّه تعالى ولم يحبَّ سواه، سواءً نفسه أم غيره.
وممّا ينبّه على أنّ النيّة هي روح العمل وأنّها أصلٌ حاكمٌ عليه،
هو ما قاله مولانا الصّادق عليه السّلام:«ما ضَعُف بدنٌ عمّا قوِيت عليه النيّة»،
لدلالته على أنّ العمل البدنيّ تابعٌ للقصد القلبيّ وجوداً وعدماً، وقوّةً وضعفاً، بحيث يدور العمل البدنيّ مدار النيّة في جميع ما أُشير إليه، حتّى أنّ البدن الضعيف يقدر على العمل إذا قوِيت النيّة، کما أنّ البدن القويّ يضعف عنه إذا ضعُفت النّيّة، فالإنسان بِنيِّته لا ببدنِه، وهذا الحديثُ من غُرَر الأحاديث المأثورة عن أهل البيت عليهم السّلام، لتفسيرِه حدَّ الإنسان بأنّه حيوانٌ ناطقٌ ناوٍ، إذ لولا النيّة الّتي هي السرّ المستودَع لما بلغ الإنسانُ نصابَه اللّازم، فهو بعدُ غيرُ بالغ.
والشاهدُ الآخر على أصالة النيّة: أنّها إذا تحقّقت وقوِيت تكون الصّلاةُ مناجاةً مع الله، ومعراجاً للمصلِّي، وإذا ضعُفت وذهل المصلّي عنها، تفقد تلك الصّلاة صِبغةَ النجوى، ويصير المصلّي مستحقّاً للويل، کما قال تعالى:
﴿فويلٌ لِلمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُم عَن صَلاتِهِم ساهُونَ * الَّذِينَ هُم يُراؤُنَ * ويَمنَعُونَ الماعُونَ﴾ الماعون: 4-7.
إنّ المصلّي الناوي الذي تكون نيّتُه خالصةً لا يكون جزوعاً ولا مَنوعاً، بل هو ممّن في ماله حَقٌّ مَعلُومٌ لِلسّائِلِ والمَحرُومِ، والمصلّي السّاهي الذي تكون نيّتُه مشوبةً بالذّهول يُرائي ويمنعُ الماعون، وكم من فرق بينهما، ومدارُ الفرق إنّما هو النيّة في الأوّل، والذُّهول عنها في الثاني، لا فعلُ الصّلاة ظاهراً لاستوائها في الحالَين.
_______________
الشيخ عبد الله جوادي آملي